دلالات كأس العالم في قطر!

هذا حدث غير عادي، يصح أن نقول مناسبة كونية. إقامتها في قطر ؛ هي بمثابة شهادة نهائية أننا أمام دولة تجاوزت كل دول المنطقة بحيويتها وجسورها الممتدة مع العالم، لجانب قدرتها على بناء علاقات قوية واكتساب نفوذ يضاعف قوتها بصورة فارقة. تلك القيود الجيوسياسية التي يقول عنها علماء السياسة والجغرافيا أنها تضعف من فاعلية الدول، تمكنت قطر أن تلغي آثارها المعيقة وتثبت قدرة الإنسان والإرادة العالية على التجاوز المستمر وتحقيق أقصى فاعلية ممكنة مهما كانت الظروف.

وبالطبع، دلالة هذا الحدث يتجاوز الميدان الرياضي ويمتد ليتفاعل مع كل مجالات الحياة، وفي مقدمتها السياسة بأثرها الكلي. فالسياسة ليست نشاطا مقتصرا على مجال الحكم وما يتعلق بشؤون الدولة العليا. السياسة هي سلوك عام يتلخص في كيفية إدارة الدولة لوجودها وتسيير كافة نشاطات الحياة بما يحقق أقصى فاعليتها، داخلًا في ذلك ميدان الرياضة بالطبع.

وهنا يبرز السؤال المهم: ما الذي صنعته قطر لتتمكن من حيازة ثقة العالم، وصولا لموافقة الجميع على منحها حق استضافة كأس العالم..؟ لا شك أن نشاطها المرتب طوال سنوات سابقة وقدرتها على اقناع العالم بمنحها هذه الفرصة، هو ما يفسر قطفها للثمرة. فلطالما كانت مشكلة المنطقة عدم وجود من يمثلها أمام العالم ويدافع عن حقوقها وعن ضرورة افساح المجال لدول المنطقة بالمشاركة الفاعلة في نشاطات عالمية. جاءت قطر وسدت هذا الفراغ، فأفسح لها العالم مكانًا، كما لو كانت ممثلة للمنطقة العربية بكاملها .

كأس العالم في قطر: حدث يمكن أن تتوقف معه المنطقة العربية طويلًا، دليل يؤكد قدرة أي دولة أن تزاحم العالم وتكتسب مجدًا عاليًا بين الأمم. هناك قوى كامنة في المنطقة ومعطلة عن الفاعلية، ونموذج قطر يحفزها ويدفعها لاستنفار قدراتها؛ كي تنفض عن نفسها سنوات من العطالة.

حين تتوجه أنظار مليارات البشر نحو قطر، فهذا الحدث الكوني يمنح قطر امتدادا ويفتح لها الدروب في كل مناحي الحياة. فالعوائد المعنوية على قوة الدولة هي الأهم والأكثر خلودا. كأس العالم يمهد الطريق لقطر؛ كي تزداد نفوذا عالميًا، بالتوازي مع الحدث وما بعده أكثر من نفوذها الحالي. قبل كأس العالم كان نفوذ قطر مدفوع بإرادة صلبة حاولت بواسطتها اختراق العالم ونجحت. بعد كأس العالم لن تكون بحاجة لجهد أكبر، فالطريق ممهدة لها ولسوف تتضاعف ثقة العالم بها، وتغدو قدرتها على التحرك أكبر.

من المفارقات الغريبة هو أن بعض دول المنطقة، بدلا من أن تتجاوز عقدها وضغائنها وتذهب باتجاه استثمار هذا الحدث واستلهام تجربته، تركت لدوافعها اللئيمة التفكير بطريقة لتشويش الحدث، بما في ذلك محاولات خفية لارباك كأس العالم؛ كي يظهروا عجز قطر عن إدارته. هذه الأمور ما تزال طي الكتمان؛ لكن مؤشرات كثيرة، تمنحني حق التكهنات هذه. مع يقيني بعجز كل المحاولات عن احداث أي اختراق مؤثر، يضعف من إعجاب العالم بقدرة قطر الفائقة على رعاية حدث كهذا وبأعلى جاهزية ممكنة.

الخلاصة: قطر تعيد للأمة العربية حضورها؛ لكأنها حاملة لميراث المجد العربي، تجدد في الأمم العربية احساسها بذاتها وتدفعها للثقة بقدرتها على الفعل. مرت عقود طويلة والمنطقة خاملة تتصرف بوجل وكأنها تعاني من هوان نفسي وتشعر أنها شعوب من الدرجة الثانية أو الثالثة. جاءت قطر وكسرت هذه المعادلة المختلة وأثبتت قدرة الإنسان العربي أن ينافس مثله مثله كل شعوب العالم.

يتوجب على الشعوب العربية أن تثمن لقطر هذا الفعل، وتقرأ دلالاته جيدا. هناك ما يمكن استخدامه من هذه التجربة وهذا هو المهم. المهم هو الدلالات الكامنة وراء هذا الفعل، التخطيط والإرادة والشغل المرتب وقراءة المداخل الممكنة للفعل والتأثير. باختصار: نحن أمام نموذج جدير بالاحتذاء، سواء كانت قطر ملاك منزل من السماء أو عفريتة من بلاد الجان المهم هو كيف تتوقف شعوب المنطقة وقادتها وتستلهم التجربة وبما يجعلها تبتكر لنفسها مداخل للفعل والتأثير في العالم. وليس بالضرورة أن تتبع النهج القطري بكامل سياساته. المهم هو الفاعلية والانتشار، وتكثيف الحضور العربي في العالم كله.

الصحفي انيس منصور

مقالات الكاتب