عمان في عيدها الـ 52..نهج فريد وقيادة حكيمة وشعب عظيم

حين تتحدث عن دول الخليج يمكنك أن تضع عمان في اطار خاص وتشير إليها كدولة ذات ملامح متفردة ونهج سياسي ذاتيّ. الأمر لا يتعلق بخطها السياسي المائز فخسب أو نجاحها اللافت على مستويات عديدة. بل هناك نقطة ارتكاز أعمق تميزها: هي بمثابة المنطلق المركزي وما يمنح هذه الدولة طابعها الخاص في كافة مناحيها ونشاطاتها داخليًا وخارجيًا.


إنه التاريخ. عمقها التاريخي المفارق لكامل دول المنطقة. مفارق هنا بمعنى أنها الدولة الوحيدة التي تتمتع بهذا البعد الممتد لقرون طويلة. وربما هذا ما لا يعرفه الكثير. ففي الوعي العام العربي، يلاحظ المرء أن صورة الدولة العمانية تبدو في المخيال الجمعي العربي كما لو كانت دولة حديثة النشأة أو هكذا تبدو الصورة المشاعة عنها. أي أنهم يصنفوها وفقًا لوضعها الحالي، كما تتجلى لهم. وربما يعود السبب لخطأ في التصور ولضعف الوعي والثقافة التاريخية. حيث يعتقد الناس أنها مثل بقية الدول الخليجية لا يتجاوز تاريخيها بضع ميئات من السنوات، أي أنها تشكلت في الفترة الأخيرة من تاريخ البشرية الحالي.


فيما الحقيقة أننا أمام دولة تكاد تكون من أوائل المناطق في كوكب الأرض، التي استوطنها الجنس البشري، ويمتد تاريخها لآلاف السنين. وهذه المعلومة بمثابة حقيقة راسخة لدى المؤرخين. نحن إذًا أمام دولة تتمتع بجذور تاريخية استثنائية. وكانت ملتقى حضارات عريقة وهدفًا لأطماع امبراطوريات عديدة ومنطلقًا لنشاط تجاري وصل مداه نحو أقاصي القارات البعيدة.


فضَّلت البدء بهذه الفكرة كمدخل لشرح جذور السياسة العمانية والسبب الذي يجعلها دولة تتمتع برسوخ عال في نهجها السياسي ولماذا تبدو مختلفة ولها طابع خاص. فالأمر يجد تفسيرة_باعتقادي_ في التراكم التاريخي وما يضفيه من ثقل وعقلانية ويغذي به مؤسسة الحكم في الدولة وصولًا لهذه اللحظة. العيد الثاني والخمسون للدولة العمانية الحديثة.

فالتاريخ ليس مجرد أحداث وقعت في الماضي وتلاشت، بل سلسلة من التفاعلات المتواصلة، وميراث من التقاليد والقيم والسلوكيات الضابطة للمسير، أشبه بموجِّه خفيّ يواصل نفوذه متجاوزا كل التبدلات الظاهرة والتحولات الزمنية في ميدان السياسة. فمهما حدث من انقطاعات وارتباكات وتغيرات ظاهرية في تاريخ الشعوب والدول؛ يظل الميراث المعنوي بمثابة شفرة جينية خالدة، تخترق الزمن وتترك أثرها في واقع البلد؛ كما لو كانت وحيًا يتسرب بدون وسيط ويسهم في صناعة حاضرها ذو الجذور الممتدة والعقل التاريخي الموزون. وهذا هو الحال فيما يخص عمان. دولة تتحرك وخلفها سفينة تاريخية هائلة تمنحها مزيد من الثبات، وربّان متمرسون على الابحار وسط كل العواصف والأمواج، دون خشية من أي زيغ أو غرق.

هذه عمان، دولة لا تقف في العراء، بل تستند لمصادر تغذية تمنحها ذلك الثبات الملازم لها على امتداد قرون وعقود طويلة. ففي الوقت الذي يمكن أن تضطرب فيها سياسة الخليج كلها، تفاجئك عمان بأنها محصنة من أي زلزال عابر. إنها لا تعاني من فجوات في نهجها السياسي؛ لكونها راكمت كثير من التجارب عبر التاريخ وصارت مؤهلة للتعامل مع كل الطارئات. تعرف أين تقف وأين هي ذاهبة ولماذا تفعل كل ما تفعله. فكل خطوة تتخذها وكل نشاط تقوم به، يظهر بوضوح أنه ذو صلة بغايتها ومرتبط بدوافعها. أي أن كل جهودها مصانة من العبث وفي كل قرار لمسة حكيمة تتجلى للناظرين.


هذا ما يجعل جهودها محروسة من الشتات، ولا تعاني من ارتباكات في مسيرتها. فكلمة السر يعود لوضوح الرؤية لديها، إنها تمضي وقد أزاحت أي تشويش يفقدها التسديد بعناية. طريقتها في إقامة تحالفاتها، صداقاتها وخصوماتها، مواقفها اللحظية وقرارتها الكبرى. كل شيء، كل شيء يبدو موزونًا بعناية. لا تخدعها التحولات الفجائية في المواقف ولا تبني سياستها انطلاقًا من انفعالات لحظية. بل تتحرك مدفوعة بصرامة عقلية وسياسية واضحة، تاركة تقلبات العواطف للدول الطارئة، تلك التي تمضي تائة وتتعامل مع مصير شعبها بطيش يفتقد للتجربة. فيما مدرسة عمان نقيض ذلك تمامًا. نموذج للرشد السياسي جدير بالإحتذاء لكل من له عقل سديد.


أطلت في تأكيد البعد التاريخي للدولة العمانية، فيما أردت قول كلمة عابرة عن وضع الدولة العمانية في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ المنطقة. لكن يقيني أن ضوء خاطف على الجدر التاريخي لعمان، كفيل بأن يشرح للناس الحالة النموذجية المبهرة للسياسة العمانية الحالية. هذه الدولة صارت بمثابة لغز للقارئ العربي. تبدو غامضة جدا وهي في أكثر حالاتها الواقعية وضوحًا. غموضها نابع عن رصانتها. فهي لا تلهو بمواقفها ولا تكثر من الثرثرة السياسية الفارغة. ليس لديها رموز سياسية متفرغة للمناكفات والطيش الصبياني ولا تستهلك نفسها في خصومات مجانية، بل تمضي في رسم سياساتها بتوحد تام. أكبر قدر ممكن من النشاط والعمل والحيوية المتواصلة وأقل قدر من الكلام. حيث فائض الكلام في السياسة هو غالبًا تعبير عن عطالة فيما عمان دولة شديدة الحيوية. أشبه بفضاء جذاب يتقاطر إليه الجميع. فكل الأطراف المختصمين يجدون لهم في عمان موطئًا. حين تنسد جميع الأبواب أمام المتصارعين على السلطة في هذا البلد أو ذاك. وحين تتخندق دول المنطقة مع أو / ضد التيارات المتصارعة، تجد عمان فاتحة ذراعيها لاحتواء الجميع.


إذًا نحن أمام دولة لا وقت لديها للدسائس والمشاجرات الصبيانية، دولة أشبه بتجسيد سياسي واقعي للعقل الكلي للأمم. لكأن قادتها يمثلون خلاصة الروح العليا للأمة العربية، أولئك الذين يرتفعون بتفكيرهم فوق اللحظة العابرة، يعاينون الواقع ببصيرة، ويلتقطون الخطوط المشتركة؛ كي يواصلوا مهتمهم في ردم الفجوات في المنطقة ولملمة الشتات الذي وقعت في بعض الدول. ومنها على سبيل المثال فقط: دور عمان في اليمن. ففي الوقت الذي تورطت فيه بعض دول المنطقة في تغذية الصراع وزيادة بؤس اليمنيين. بقت عمان كقبلة أخيرة، قادرة على لعب دور توحيدي وامتصاص أثر الكارثة. ولا يخفى على أحد الجهود المبذولة سرا وعلانية للقيادة العمانية؛ كي تدفع بمشروع السلام بين اليمنيين. وقد أسهمت بالفعل في تخفيف مأساة الشعب اليمني ما أمكن لها ذلك وإن كان هناك مستقبلًا من إمكانية لسلام شامل، فلا أظنه يأت سوى من البوابة العمانية. فهي الدولة الوحيدة التي لا يحمل لها اليمني أي ضغينة. وحين أقول اليمني فالمعنى هنا اليمني بشكل عام من مختلف توجهاته وليس كما يردد الأخرين كلامًا باسم اليمن حين يعبرون عن فصيل محدد تابع لهم ويغضون طرفهم عن باقي الشعب الذي يرفضهم. فاليمني يعرف من يعتني بمصلحته العامة ومن يتاجر بأوجاعه ويهدف لأطماعه الخاصة. يعرف اليمني عمان وما تكنه له هذه الدولة من رغبة صادقة بمصير آمن للشعب ولهذا هو يحتفظ لها بكثير من الود وغدًا حين تضع الحرب أوزارها، سيكون لعمان وزنها لدى اليمنيين ويتذكرون كيف كانت الملاذ الأخير لهم والميناء الذي رست فيها سفينتهم وعانقوا السلام أخيرًا بفضل دورها الحكيم.

 


الخلاصة: في عيدها الثاني والخمسون، تتجلى لنا الدولة العمانية كأنها الدولة الخليجية_وربما العربية_الوحيدة التي تمثل نموذجًا جديرًا أن تتوقف معه شعوب المنطقة كثيرًا. دولة جنبت نفسها كل الصراعات اللامجدية. لكأنها التطبيق العملي القاعدة السياسية الشهيرة: مزيد من الأصدقاء وأقل قدر ممكن من الأعداء. مزيد من الحلفاء وصفر خصوم أو مشاكل. دولة حشدت طاقتها لتنمية قدراتها ومضاعفة امكانتها. توجيه كل مدخراتها لرفع مستوى حياة الشعب والتأسيس لمصير مضمون. هذا هو المعيار الذي يجب اتخاذ قاعدة للحكم على مستقبل الدول. لا يكفي أن تكون دولة ما مزدهرة شكليًا فيما هي تحمل كل عوامل اضطرابها في باطنها كبعض دول الخليج والمنطقة. تبدوان دول مزدهرة، لكن سياساتهم المليئة بالدسيسة والضغائن التي يولدوها في محيطهم تجعل أي مراقب يشك بأن مصير هذه الدول مضمونًا بشكل دائم، فهي وإن بدت هادئة لحظيًا؛ لكن مستقبلها غير مأمون العاقبة. فلا بد أن ترتد إليهم نتائج صنائعهم. وهذا ما يمكن تسميته بالاستقرار الهش ولست بحاجة لتوضيح أكبر؛ كي أذكر لكم نماذج لدول في المنطقة، من هذا النوع وتعرفونها جيدا. فقط مررت عليها في معرض المقارنة بين رسوخ الدولة العمانية وتأمينها الاستراتيجي لمواقعها ومصيرها، وهذا هو النتيجة الطبيعة لدولة هي بمثابة العقل السياسي الأكثر رشدًا في المنطقة. خلاصة الحكمة فالتاريخ خير معلم والسلطنة وسلطانها وقادتها، تلامذة نجباء لتاريخ زاخر بالحكمة وقد استلهموه جيدًا.

فائق تهانينا للدولة العمانية شعبًا وقيادة.. وباسم شعب اليمن، البسطاء الأنقياء من الناس، أقول لعمان : لن ننس جميل صنعكم معنا، نحن مهمومون بتدبير أحوالنا المعيشية، غارقون في كوابيس واقعنا الخانق، لكننا نتابع جيدا ونعرف الأصدقاء ممن هم ليسوا كذلك، نعرف أين نضع عمان وفي الغد سيكون بمقدورنا مبادلتها الجميل ذاته فالشعوب تحفظ لجيرانها عظيم ما صنعته لها. فعمان واليمن هما الدولتان الوحيدتان اللتان تشتركان بخط تاريخي واحد وعريق. مع فارق أن الأولى أمسكت شفرتها ونجت من المزالق، فيما اليمن تخطفتها الأقدار. ولئن كان مصيرنا باعثًا للأسى، فدور عمان يخفف شيئًا منه وهذا ما لن ننساه لها قط.

مقالات الكاتب

دلالات كأس العالم في قطر!

هذا حدث غير عادي، يصح أن نقول مناسبة كونية. إقامتها في قطر ؛ هي بمثابة شهادة نهائية أننا أمام دولة ت...