الرئيس هادي وهوس المغردين
يبدع ساسة ونشطاء واعلاميو الجنوب والشمال على حد سواء في تحويل كل نعمة إلى نقمة، ويتقنون تأزيم المأزم...
لماذا فجرت صورة صغيرة مطبوعة على غلاف دفاتري المدرسية غضب مدير المدرسة؟!.. سؤال لم أعي الإجابة عليه بعقل طفل في الصف الرابع الابتدائي حينها.
كان العام ١٩٨٥م، وكانت عدن تعيش مرحلة بهية، وبصمات الرئيس علي ناصر محمد كانت واضحة في الابتسامة التي عادت إلى وجوه الجنوبيين وعاصمتهم عدن، نجح الرجل في وقف صراع سياسي وحقبة دموية وانهيار اقتصادي عاشتهم عدن منذ أولى أيام الاستقلال وحتى تسلمه الحكم وإدارته البلاد.
علي ناصر الذي حقق انجازات لازالت ذكراها الجميلة عالقة في أذهان شعب جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية لم يعلم حينها أن أحد منجزاته كان السبب بتفجير غضب مدير مدرستي في وجهي وتوبيخه لي بعنف ومصادرته دفاتري ومعاقبتي بنقل دروس جميع المواد الدراسية إلى دفاتر جديدة.
لم أغضب من الرئيس علي ناصر محمد وقتها، فإنجازه الذي أوقعني في براثن عقوبة ثقيلة على تلميذ مثلي لا يطيق الدراسة باضطراري إلى قضاء ساعات طوال في الكتابة ونقل الدروس إلى دفاتر جديدة غير تلك التي صادرها مدير المدرسة بتهمة (المساس بالسيادة الوطنية)، هو ذاته الإنجاز الذي أعاد به (ناصر) الفرحة إلى قلبي ولكل أفراد أسرتي.
أتذكر الأمر جيدا وكأنه يحدث الآن.. بفرحة طال انتظارها وقفت بجانب أمي الحبيبة أمام بوابة وصول المسافرين في المبنى القديم لمطار عدن، حطت طائرة (اليمدا) قادمة من دولة الكويت، ومعها عاد إلينا أبي الذي تغرب إجباريا عنا لسنوات طوال نفي فيها من وطنه قسرا وسلب وظيفته ورتبته العسكرية ومكانته كضابط كفء بوزارة الداخلية كحال كثيرين من رفاقه العدنيين الشرفاء مناضلي جبهة التحرير عقب أحكام سياسية جائرة أصدرها بحقهم اللصوص الذين سطو على استقلال ثلاثين نوفمبر وانقلبوا على صانعيه الحقيقيين وحولوه إلى (استقلال ضائع) بجريمة وطنية سجل فصولها المشينة للتاريخ الوطني الجنوبي الكبير عبد حسين الأدهل في كتابه (30 نوفمبر .. الاستقلال الضائع).
زيارة والدي لنا بعد سنوات من غربته القسرية ما كانت لتحدث لولا قرار أصدره الرئيس الحكيم علي ناصر وألغى به حكم الإعدام الذي أصدره أول متاجرين بالجنوب عقب استقلال ممن انقلبوا على الرئيس (سالمين) وباعوا عدن لموسكو، وهو أيضا نفس القرار الذي تسبب فيه الرئيس علي ناصر بمعاقبتي من قبل مدير المدرسة لمجرد وجود علم صغير لدولة الكويت الحبيبة مطبوعا على أغلفة دفاتري التي أحضرها لي أبي من الكويت ضمن هداياه لي.
انتهت إجازة والدي أواخر العام ١٩٨٥م وعاد مجددا إلى الكويت التي عشقها حتى يومه الأخير في الحياة.. وكذلك انتهى الجنوب في بدايات العام ١٩٨٦م بأحداث ١٣ يناير التي أجهضت مسيرة (ناصر) لإنهاء الاستعمار السوفيتي للجنوب وعدن والنهوض بالجنوبيين، وهي ذات العقليات (الينايرية) التي سبق وغدرت بمشروع (سالمين) الوطني، وجميعها انقلابات وأحداث اغتالت الجنوب باسم الجنوب وهي أبعد ما تكون عنه.
رحلوا جميعا ما بين منفى وموت وضياع، الجنوب وعلي ناصر ومدير مدرستي ووالدي.. ولازالت عدن على حالها منذ كنت طفلا في العاشرة وحتى تجاوزت الأربعين من عمري تغتال بالعقليات (الينايرية(.
ترى ماذا كان معلمي سيقول وكيف كان سيغضب إن رأى اليوم علم دولة الإمارات وصور حكامها على واجهة نفس المدرسة التي وبخ فيها تلميذا صغيرا قبل أكثر من ٣٠ عاما وصادر دفاتره المدرسية ومزقها بسبب علم صغير مطبوع عليها لدولة الكويت، ولم يشفع للدفاتر ولا للتلميذ حقيقة أن الكويت من بنت المدرسة حجرا حجر وشيدت غالبية مدارس عدن دون أن ترفع على واجهاتها أعلامها وصور حكامها أو تجبرنا على قول "شكرا كويت الخير) كما يحدث الآن بمباركة (الينايريون الجدد)!!.