أنور الصوفي يكتب: عندما كنا تلاميذاً

أنور الصوفي

كانت كراساتنا جديدة من بداية العام حتى نهايته، وكنا نغلفها بالقرطاس الكاكي، وما أن ينتهي العام الدراسي إلا وقد امتلأت آخر ورقة مع آخر يوم دراسي، وكانت كراساتنا مصححة من أول درس حتى آخر درس، وكان كل سؤال مصححاً بإشارة تشير إلى اطلاع المدرس، أو المدرسة على كل سؤال لحالة، مع وضع الملاحظات التصحيحية.


كانت حقائبنا سلة تخاط من كيس الدقيق، وكنا نحملها بفرح شديد، وكانت الأرض هي بمثابة كراسات إضافية نمسحها ونسويها، ونكتب عليها للاستذكار، وكانت أقلامنا الرصاص تكمل بين أيدينا حتى نصل إلى الممحاة، والقلم الحبر كنا نأتي على آخر نقطة في سنته، ولو امتنع عن الكتابة وضعناه في الشمس حتى تذوبه وتعيده للكتابة، وآخر حل هو النفخ فيه حتى نعلم خلوه من المداد، ومن امتلك القلم الذي له أربعة ألوان، الأحمر، والأزرق، والأخضر، والأسود، ظل طوال يومه يستعرض به أمام زملائة، وكان يتباهى به كما يتباهى الفرسان بسيوفهم، وكان مستعداً ليعطي معلمه قلمه ليصحح به إن طلبه، وكان يعتبر ذلك انتصاراً له أن يستعير المعلم قلمه.


عندما كنا تلاميذاً كنا نرعى الأغنام والكراسة،أو الكتاب بين أيدينا، وننام وهو على صدورنا، ونصحو لنطلع عليه، ونجلس تحت الأشجار وفي الجبال، ونمر على الطرقات وكراستنا رفيقتنا، كان كل تلميذ لا يترك كتابه، ولا كراسته، وكان التلميذ يتميز عن غيره خارج المدرسة بالكراسة، فلا يكاد التلميذ يبرحها، ولم تكن تفارق يده.


عندما كنا تلاميذاً، كنا ننظم كراساتنا رغم شحة الإمكانيات، فالعنوان بارز وتحته خط، وبعد كل سؤال وإجابته خط، وكان التنظيم عنوان الكراسة من بداية العام حتى نهايته، وينتهي العام والكتب، والكراسات جديدة، ونظيفة، فلقد كنا ندللها كما تدلل الأم وليدها، ونحملها كما تحمل الأم ابنها، ونقبلها ونحتضنها كاحتضان الأم لفلذة كبدها.


عندما كنا تلاميذاً، كنا نسهر نذاكر على الفانوس، وكنا نحيط به كإحاطة السوار بالمعصم، وكان أباؤنا الذين لا يجيدون القراءة ولا الكتابة بتابعوننا خطوة بخطوة، وعندما نكمل كتابة واجباتنا، أو عندما نعود من المدرسة وهي مصححة نعرضها عليهم، فينظرون فيها، وهم يثنون علينا بقولهم: شباش شباش، ونحن لا ندرك عدم معرفتهم بالكتابة والقراءة، فما أجمل تلك الأيام، وما أروعها.


كنا نفرح ببدء الدراسة كفرحتنا بالعيد، ويبدأ التنافس من أول يوم، وكل تلميذ يحب أن يكون مميزاً في نظر معلميه، فكنا نهجم على الكتاب بنهم، وكان يتشارك في الكتب اثنان، وثلاثة، وعندما يأتي يومك، تحاول التهام كل معلومة فيه، فيالها من أيام جميلة، ورائعة.


كنا لا نعرف الهروب من المدرسة، ولا يعرف الغش سبيلاً لبوابات إجاباتنا، بل كنا لا نفكر فيه، فلقد كانت قيم حب النظام مغروسة فينا، فبزي مدرسي واحد يمضي العام الدراسي، وهي نظيفة ومرتبة، وكنا نجلس على كرسي طويل مع طاولته، ولا تكاد تسمع مشاغباً، فمجرد رؤيتك للمعلم يعني: السكوت، والتزام الصمت، وعند دخوله حجرة الفصل، يثبت كل طالب في مكانه، وتبدأ عملية التهيئة لالتهام أكبر قدر من المعلومات، فما أجمل تلك الأيام، وما أجمل صوت الجرس.

مقالات الكاتب

ليلة القبض على راتبي

  عندما سمعت بأن الراتب قد نزل عند القطيبي خرجت مسرعًا، ووقفت في طابور بعد خمسة أشخاص،  وص...