ذات عدن ... ذات حضرموت. ( 4 )

 لايمكن الحديث عن دور الحضارم في صناعة السفن الخشبية في عدن ، دون التطرق إلى دورهم في الملاحة البحرية ودور ربابنة السفن " النواخيذ " في هذه العملية التي ترتبط إرتباطا مباشرا ووثيقا ببعضها البعض .. 
  بوجود تلك الاعداد الكبيرة من السفن ، التي تمت صناعتها في عدن ، ازدادت الحاجة إلى اعداد كبيرة من نواخيذ وبحارة خبروا البحر واهواله ، وعرفوا فنونه وعلومه . وفي ظل عدم وجود كلية لعلوم البحار او معاهد لتخريج بحارة ، فان حضرموت ظلت المخزون الذي رفد تلك السفن التي صنعت بساحل المعلا -دكة بربابنة افذاذ ورجال اكفاء ، من نواخذة وبحارة قدموا من مناطق الساحل الحضرمي .. المكلا ، الشحر ، الحامي ، والمقد ، الديس الشرقية ، وبروم وقصيعر  . انه امر يجري في دمهم مثل كريات الدم البيضاء والحمراء ، وسرعان مايأخذ هؤلاء اماكنهم خلف دفاف تلك السفن ، ويعتلون ظهورها ، ويخوضون بها البحور العميقة . . إنها الريح تحملهم نحو موانيء جديدة ، او ترسوا بهم في موانيء قديمة .  ومهما بعدت سفنهم ، فانهم يظلون يرقبون البر ، وطيور النورس ، وفي شوق دائم إلى الأهل الذين تركوهم خلفهم .. أم ..اب .. زوجة واولاد .. وساحل يبتعد كلما قرب . 
   كيف استطاعوا إحتمال كل ذلك الغياب في الضفتين ؟!
  يصف الباحث طاهر ناصر المشطي في بحثه " دور الحضارم في صناعة السفن الخشبية في عدن " هؤلاء النواخيذ بالكوكبة التي لايجود الزمان بمثلهم ابدا ، حملوا ارواحهم على اكفهم ، واكفانهم في حلهم وترحالهم ، وغامروا بحياتهم عبر لجج البحار التي ارتادوها على ظهور سفنهم الشراعية ، إنطلاقا من مياهنا الإقليمية ، مرورا بالبحر العربي والخليج وساحل بر فارس ، وصولا الى شواطىء الهند وشرق افريقيا وانتهاء بالبحر الأحمر . 
     من يركب البحر لايخشى من الغرق .. انهم الوارثون لهذه المياه، منذ ركب منقذهم الاول تلك الالواح الخشبية لإنقاذ الازواج من كل الانواع من الطوفان العظيم . 
  بحار .. بحار .. وطرق بحرية لاتخلو من اخطار ..بل تشكل قمة الخطورة لما فيها من صخور ، شعاب مرجانية ، جزر ترابية وصخرية ، ورؤوس جبال مطلة على البحر معظمها لاتوجد عليها إشارات تحذير ، او فنارات ترشد السفن .. لكنهم مع ذلك يجتازونها ،  معتمدين لا على الشهادات التي لايعرفون عنها شيئا ، بل على خبرتهم الواسعة التي اكتسبوها من الممارسة العملية ماجعلهم في مصاف حاملي الشهادات العليا في علوم اعالي البحار ..وهي خبرة اكتسبوها من هذه البحار منذ الصغر .. من بداية عملهم على ظهور السفن الشراعية .. يصعدون السلم من اوله ، ولايصل الواحد منهم إلى الدرجة السابعة النوخذه او قائد السفينة إلابعد ان يجتاز المراحل الست السابقة لها : 
صغير شربة ، 
صغير درك ، 
بحار ، 
مساعد قابض سكان 
 سكاني ، 
صرنج " رئيس بحارة " . 
وكل مرحلة من هذه المراحل يتطلب البقاء فيها من ثلاث إلى اربع سنوات ، وقد تطول إلى خمس . وحتى إجتياز هذه المراحل الست لايعني الصعود التلقائي إلى درجة نوخذة ، اذ توجد معايير اخرى منها إكتساب الخبرة ، والقدرة على قيادة السفينة ، والإستقامة ، وقوة الشخصية . 
    وإستنادا إلى ثلاث إحصائيات لنواخيذ السفن الخشبية ، اعتمد عليها الباحث المشطي ، للمناطق التي ينتمون اليها. وهي المكلا ،  بروم ، الشحر ، الحامي والمقد ، الديس الشرقية ، وقصيعر ، لاحظ وجود فروق بسيطة بين هذه الاحصائيات ، ولضيق الوقت اخذ المتوسط الحسابي ليعطينا صورة عن اعدادهم ومناطق إنتمائهم على النحو التالي : المكلا ( 7 ) في إحصائية الكلدي ، و14 في إحصائية باعامر ، و6 في إحصائية المقدي . المتوسط الحسابي ( 9 ) . الشحر 19 في إحصائية الكلدي ، 20 في إحصائية باعامر ، 8 في إحصائية المقدي ليكون المتوسط 16 . الحامي والمقد  129 في إحصائية الكلدي ، 100 ، في إحصائية باعامر ، و51في إحصائية المقدي ليكون المتوسط 94 . الديس الشرقية : 167 في إحصائية الكلدي ، 53 في إحصائية باعامر ، 168في إحصائية. المقدي ، بمتوسط 130 نوخذة . اماقصيعر فخرجت بمتوسط 14 نوخذه ، فيما حازت بروم اقل متوسط بنسبة 3 نواخذة . ومن خلال الجداول الثلاث يصل الباحث إلى نتيجة تواجد اهل الديس الشرقية بين الملاحين ورجال البحر الحضارم كبيرا ، بحيث امكنه القول انهم كانوا اكثر عددا من كل اهل الساحل الحضرمي تواجدا في الملاحة البحرية كما يتبين من احصائيتي الكلدي والمقدي ، وهذا العدد يعد كبيرا مقارنة باعداد النواخيذ ومعالمة البحر القدامى التي كانت تعطي الأولوية لأهل الحامي ، الأكثر شهرة في ميدان الملاحة البحرية !  وتتضاءل امامه اعداد النواخيذ ومعالمة البحر من الشحر وقصيعر والمكلا وبروم المعروفين الذين عملوا خلال نفس الفترة  . 
  إنه الزمن يسيل من بين اصابعنا ..
  وبعد ذلك الحضور الكثيف لصناعة السفن الخشبية ، ودور الحضارم القوي فيها منذ القرن التاسع عشر إلى اوج إ زدهارها في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين المنصرم ، بدأت في التراجع ، والتوقف والاندثار بدء من النصف الاول من 1965م . وبعد ان سايرت التطور الذي ادخل على تسيير السفن عبر إدخال المكينة بدلا من سرعة الرياح والشراع الذي بدأه الخواجة انتوني بس وتبعه ال بازرعة وباشنفر وملاك السفن الاخرون ، جاء الوقت والظروف والقوانين التي قالت لتلك الصناعة والسفن الخشبية : 
  لامكان لك هنا ...! 
  لقد صمدت وقاومت بما فيه الكفاية نحو قرن الا ربع ، وجاء الوقت الذي يلتهمها الوحش الذي لايرحم . !!
    يذكر الباحث عدة اسباب لتوقف واندثار تلك الصناعة العظيمة منها : 1 . تراجع الحركة التجارية عن سابق عهدها لعدة عوامل من بينها إعادة فتح قناة السويس ، إذ صار التجار يتعاملون مع الشركات التي تمتلك السفن البخارية ذات السعة الاكبر لشحن بضائعهم  ، ضمانا للسلامةوسرعة الوصول  ، مما ادى الى شل حركة السفن الشراعية . 2 . استيلاء الدولة على السفن بالكامل عام 1971م عبر ماعرف بانتفاضة مايو ، وتأسيس الجمعية التعاونية للنقل البحري ، التي لم تستمر طويلا حيث صدر قرار مجلس الوزراء بدمج الجمعية باحدى الشركات المالكة لثلاث بواخر متهالكة منتهية الأعمار تحت مسمى خطوط اليمن البحرية منذ العام 1980لكن إدارة الشركة كانت تنقصها الخبرة لتشغيل تلك السفن. ، وتعرضت للإهمال ومن ثم لم يعد لها وجود يذكر ، وصارت أثرا بعد عين !! 
    كلمة اخيرة اود قولها في نهاية هذا الإستعراض لبحث الأستاذ طاهر ناصر المشطي : " دور الحضارم في صناعة السفن الخشبية بميناء عدن والعمل عليها،  من منتصف القرن التاسع عشر الى الربع الاخير من القرن العشرين "  المقدم الى المؤتمر العلمي الثاني ( دور الحضارم في عدن عبر التاريخ ) المنعقد في مدينة عدن بتاريخ 17 - 18 ابريل 2019م ..  هي انني عندما اردت الكتابة حول هذا البحث لأهميته ، وجدت نفسي في حيرة ، فانا معجب بالبحث ،  وكثير من المعلومات التي وردت فيه اعرف عنها للمرة الأولى ، وهناك كثيرون غيري حالهم مثل حالي ، لم يتح لهم فرصة حضور المؤتمر ، او الاطلاع وقراءة البحث الذي فيما اعلم لم ينشر بعد في دورية علمية .. وأولئك من  كانوا يحضروني حينها .. 
     لقد اعتمد الباحث على مراجع كثيرة بلغت نحو 85 مرجعا ، مابين مرجع لمرة واحدة ، ومراجع متكررة ، مابين كتب ، ودوريات ،  ومخطوطات ، ومقابلات مع شخصيات ، وهو يشير إليها في الهوامش كما يفترض في اي باحث واي بحث علمي من هذا النوع ..
  وكنت امام السؤال : ماذا افعل ؟ 
  هل اتتبع اثر الباحث المشطي ، فاشير إلى الهوامش والمراجع كما ذكرها وكلما اشار إليها في بحثه .. ام اتجاهل ذلك كأني لا اراها .. ووجدت في الاخير لكي اعبر إلى الضفة بقارب امان ان اترك امر المراجع لمن يريد  ، العودة للبحث الاصلي ، وهو امر يهم القاريء المختص كثيرا لا القاريء العادي .. ولاغنى عنه في كل الأحوال . 
.. لكنني اجد لزاما علي ان اشير بدرجة رئيسة إلى عدد من المراجع اثارت  إهتمامي بصفة خاصة يذكرها الباحث ناصر المشطي بصورة متكررة في بحثه : الاول كتاب : ( السفينة ماقبل المكينة )  لمؤلفه المغفور له باذن الله محمد قاسم الكلدي . وباحثان آخران هما : عوض مبارك بن ربيد ، وحسن سالمين عميران ( وشارة السفن بالديس الشرقية ) وعدة مقالات في موضوع البحث للكاتبين في مجلة شرمة . وباحث رابع هو محمد عوض محروس ( مكانة اهل الديس في الملاحة والتجارة البحرية في ساحل حضرموت ) و ( البحر في تراث حضرموت ) مقالان في مجلة خلفة ، ومجلة افاق التراث الشعبي .  
  وهناك مراجع كثيرة اعتمد عليها الباحث في بحثه لم استطع الإشارة اليها لكثرتها ، هذا لايعني ابدا التقليل من اهميتها وقيمتها  ، وأصحابها ، وجميعم مثل حبات اللؤلؤ في عقد فريد ، وكلها ذات صلة بموضوع البحث الاصلي ، لكن وجدت ان الابحاث التي ذكرتها تتعلق مباشرة بتفاصيل ادق واكثر تغني بحث الاستاذ طاهر المشطي وتثريه .. لهم جميعا الشكر والاحترام وكل التقدير ، وخاصة محمد قاسم الكلدي رحمه الله وجزاه عنا كل خير ، و الباحثين عوض مبارك بن ربيد ، وحسن سالمين عميران ، وللصديق الباحث محمد عوض محروس ..والشكر موصول إلى الباحث الاستاذ طاهر ناصر المشطي الذي ادين له بفضل القاء شعاع ضوء على هذا الجزء من تاريخ صناعة السفن الشراعية في عدن ودور الحضارم ، ومكانة اهل الديس الشرقية فيها .. وهي قصة كفاح يجب ان تروى للاجيال الحالية والقادمة .. وقصة تاريخ وسجل وفاء لأولئك البناة من الاجداد والأباء بناة السفن ، ونواخذة وبحارة السفن الخشبية ، وللتجار الحضارم وغير الحضارم ممن شاركوا في إزدهار هذه الصناعة ، وفي نفس الوقت قصة ربط بين الأجيال ...وبين زمن وزمن .. وقرن وقرن ..وفي وسط كل هذا الإعلاء من شأن الكتابة والبحث العلمي .. وان حدت خطأما خلال هذا الإستعراض في تقديم البحث للقاريء ، فهو مني وليس من الباحث ، وارجو ان يقبل وتقبلوا عذري واعتذاري .. 

            انتهى ..

مقالات الكاتب