ريفُ تهامة.. أنشودةُ البراءة

لا أدري كيف يحقُّ لي أن أتحدثَ عن الرِّيفِ ولستُ منه؟! ولدتُ وعشتُ في رحابِ المدينة، لكنَّ الريف استوطنَ روحي، والنَّفس إلى ما تحبُّ تواقة، بيْدَ أنَّ القدرَ قد جرىٰ بشيءٍ لا مفرَّ منه.. بعضُ صحْبي كانَ يتندَّر بي؛ لأني لا أنحدرُ من قريةٍ بعينها، لا مكانَ أرجعُ إليه هروبًا من تنكُّر المدن، لكني رأيتُ - مذ كنتُ صبيًا- أنَّ تهامة وريفها، وقراها، ووهادها؛ ملاذي الذي أعودُ إليه كلما هممتُ أن أفرَّ من شقاءِ الأيام! 

كلما مررتُ بالأرياف، والقرىٰ النائية، تطرقني تساؤلات شتىٰ، كيف يعيشُ هؤلاء؟ كيفَ يتحملونَ كل هذا الصَّمت بلا ضجيج؟ تنظرُ إليهم فلا ترىٰ جشعَ المدنِ الذي يتركُ أثره في وجوه أبنائه، يفتحونَ بأيديهم ستارة الصَّباح، ثم يشرعونَ في صناعةِ حياتهم بطريقتهم التي يحبون، ثمة علاقة ضاربة في جذورِ الرُّوح بينهم وبينَ الأرض.. ينظرونَ إليها لا كما ننظرُ نحن، تختزل الأرضُ في الأريافِ مسمىٰ الحياة!

نظرتهم إلى الكونِ نظرة مغايرة، الشمس والقمر يسيرانِ في مساراتِ أرواحهم، ثمة وشائج تربطُ بينهم، يرقبونَ النجوم بعمق، الليل عندهم حكايةُ العودة، ومهبط الأسرار، والنهار ضربٌ من ضروبِ الكفاح.. يرونَ في ظلالِ الأشجار سحائب الرَّحمة، وتهيِّجُ قطرة الماء البارد لديهم شكرَ المنعِم، ويرونَ الله في كلِّ أثرٍ من آثارِ الوجود، وشواهد التعظيم.
هم ثمرة مكانٍ طليق، فضاء ممتد، لا يصدُّ هواءه بناء، ولا يحجبُ شمسه غيم، كل شيء فيه حرٌّ على الفطرة، وهم كذلك أحرارٌ كالبقعةِ التي يحيونَ فيها..! 

في مرحلةٍ من مراحلِ العمر المبكرة؛ قررتُ أن أذهبَ إلىٰ الأرياف، إلى القرىٰ النائية، إلى الأماكنِ البعيدة، يهمني كإحدىٰ مهماتي في الحياة؛ النظر إلىٰ عيونِ البسطاء، من لا يعرفون في الحياةِ إلا الأرضَ، والشمس، والقمر، والمرعىٰ، والحب، كنتُ أبحثُ عن إجابة "كيفَ يعيشون؟"، تعاظم السؤال في داخلي؛ لأني امرؤٌ ما عرفَ حياة الأرياف، لكنه أحبها حدَّ الجنون..! 

مكثتُ ليال طوال في الأرياف، أنظر إلى القمرِ ليلًا والنجوم، أتخيلني أسبحُ في الملكوت، ومن فرجاتِ الأشجار يتراءىٰ لي ضوء القمر منسكبًا علىٰ الجدول والطريق. تسهم الظلمة في غسلِ الروح، تساعدكَ على الالتقاء مع نفسك وجهًا لوجه، لا مجالَ للفرار، فكيف تفرّ من نفسك في فضاءِ البراءة؟ المكان الذي ينبغي أن تُفتحَ فيه الأبواب المغلقة.. ليس سوىٰ الرِّيف ذلكَ المكان!

كانت -وما زالتْ- تثيرني رائحةُ الدخان في الأريافِ والقرىٰ، مررتُ بمكانٍ يتصاعدُ منه الدخان إلى السّماء.. وجدتني أقف، أنظرُ بصمتٍ وجلال إلىٰ الدُّخان الذي يتصاعدُ مضوَّعًا برائحةِ الحطب، وبقايا الأشجار؛ شعرت بلذةٍ في استنشاقه، يذكرني بـ الريف، والقرىٰ النائية، وحياة المنسيين، والفطرة الأولى، وجمال الحياة وبراءتها، وكذا يغسلني بحزنٍ شفيف!

طوفتُ العديد من ريفِ تهامة، كنتُ أتعلمُ منهم ممارسة البقاء سليمًا من آفاتِ الحياة؛ كلما مررتُ بمرابعهم، يرونَ في زائرهم مثار العجب، باعتباره كائنا متحضرًا، وهم من يملكون - لعمري - قيم الحياة، والحضارة، والفطرة الأولىٰ..! 

أكره الحديثَ عن الريف وكأنه جنّة، نمرُّ عليه عبورًا للمتعةِ البصرية المؤقتة، دونَ الوقوف على كنْهه، إذ لا نرىٰ في الأريافِ إلا الظِّلال، دونَ الشمسِ الحارقة، والعيون المتناثرة دونَ شحّ الماء، وبراءة الإنسان دونَ النظر إلى همومه، ومصاعب الحياة التي تثقلُ كاهله، ننظرُ إلى الفجرِ في الريف باعتباره يختزل طمأنينة العالم ونقاءه، ثم نرغبُ عن رؤية الشَّقاء بقية النهار.. ما زال الريف يحوي عنصرَ البراءة، وهي ما يستحقُّ الانطلاق منه للنظرِ إلى الأرياف وإنسانها.. بعيدًا عن سماجة التعبير الذي حفطناه منذ الصغر عن الريف الفردوسي الذي لم نزره، والريفيّ الذي نسيناه! 
 
في كتابه الماتع "داغستان بلدي"، يقول رسول حمزاتوف: "على كلِّ إنسان أن يفهمَ منذ صباه أنه أتى إلى هذا العالم؛ ليصبحَ ممثلًا لشعبه، وعليه أن يكون مستعدًا لتحملِ أعباء هذه المهمة".
سماها مهمة؛ لأنه ليسَ هيِّنًا أن تُقدِّم موطنكَ - أرضًا وإنسانًا - إلى العالَم، بذاتكَ، إذ تحدثُ حالة من الامتزاجِ بين الكاتبِ والمكان الذي يتحدثُ عنه، أي بين روحيْهما، تُعرفُ المدينة بك، وتُعرفُ من خلالك؛ فيرونها مرسومة في ملامحك، ينطفئ أوارها كلما خفتَ حديثكَ وذودك عنها، وإظهار عنفوانها بينَ الخلائق..!

وأي مهمةٍ أعظم من أن تتحدثَ عن الإنسانِ من أبناءِ جلدتكَ في الأماكنِ النائية التي ابتلعها النسيان، الإنسان بكلِّ همومه، وإخفاقاته، وأشواقه، الإنسان الذي طوّع الطبيعة، وحفرَ الآبار، وشقّ الطرق الوعرة، وتخلصَ من آفاتِ المدن، وقام للإله في خشوعٍ لا يعرفه سواه..!

الريفي التهامي مفطورٌ على الكرم، إذا قدِمتَ عليه من ليلٍ أو نهار، أعاد سيرة الأجداد الأوَل، يجري الكرم والإباء فيهم مجرىٰ الدَّم، إنهم أنشودة البراءة، وخلاصة الجمال البشري الذي لم يتأثر بأوضار المادة وتوحشها.

#تهاميات
#خالد_بريه

مقالات الكاتب

العنصرية:تلكَ عشرة كاملة

«١» تظافرتْ منذُ القِدَمِ العديدُ مِنَ العواملِ والأسبابِ المعقَّدةِ في خلقِ مجتمعٍ شديدِ التَّ...

بكل وضوح

كل شيءٍ هنا محسوب جيدًا، التهاني، التعازي، المديح، وحتىٰ التضامن.التضامن ليسَ خالصًا،دقق في أصحابِ ا...

خاطرك مجبور = أنت كفو

منذ بدايةِ رمضان، تحدَّثَ النَّاس عن برنامجِ (أنتَ كفو) البحريني، وحُقَّ لهم ذلك؛ لأنه قطعةٌ من الجم...

تهامة.. واجترار الغياب!

منذ إعلان الرياض، وإعلان المجلس الرئاسي، تساءل بعضهم، وأين ممثل إقليم تهامة؟!وهذا سؤال مشروع، إذا رأ...