تهامة.. حكايةٌ ومقهىٰ!

في مدينةٍ ساحلية تتدثرُ بحرارةٍ مرتفعة، يصبحُ الهروب إلىٰ فضاءاتٍ مفتوحة أمرا لا مفرَّ منه، الخروجُ من ضيقِ المنازل، إلىٰ الكراسي العتيقة في المقاهي الرحيبة؛ يسهمُ في إبقاءِ الرُّوح علىٰ قيْدِ الجمال.
تدارُ في ساحتها صنوفٌ من الأحاديث، والنقاشات، لا يُفتحُ فيها للإنسانِ إلا هناك.. كأنه مكانٌ لتجلي الأفكار.. فكيفَ وقد قيلَ: همُ القوم لا يشقىٰ بهم جليسهم..! إذ كيفَ يشقىٰ من ضمَّ كأسًا من الشَّاي في مقهى عتيق؟!

إني امرؤٌ أعشقُ المقاهي، ولعلَّ حبي لمصر في بعض ملامحه، مرتبطٌ بالمقاهي الأثيرة التي كنتُ أقضي فيها أوقاتًا طويلة لا تخلو من لقاءٍ طريف، أو قراءة كتاب في زاوية من زواياه، أو حديث مع صديق توثقت العلاقة به في قلبِ المقهى..!

خُلقَ هذا الشعور، مذ كنتُ في مدينتي.. كنتُ لا أتركُ يومًا دون أن أغشىٰ فيه مقهى من مقاهيها، لا سيما قبيل المغرب أو بعد صلاةِ العشاء، وكان لكلِّ واحدٍ منها مكانة في نفسي لا ينازعه فيها غيره..! 

من المقاهي العتيقة التي كنتُ أترددُ إليها كثيرًا، "مقهى الصُّحون"، تمرَّغَ صاحبها، ودكاتها، وكراسيها، ومرتادوها، بتاريخٍ سالف، كان يتفننُ في "الحليبِ المفور" ، والحليب الأبيض الممزوج بالهيل، ولا يعيبه إلا أنه ليسَ من عشَّاق الليل.. يموتُ المقهىٰ مع حلولِ الظَّلام.

 تربَّعَ مقهىٰ "الحدَّاد" أو ما تُسمىٰ بـ"مقهاية الحداد"، مكانًا مميزًا في نفوس مرتاديه، ومما ينبغي الإفصاح عنه في مقامٍ كهذا، أني لم أكن من مرتاديه، كان يغشاه كبار السِّن، والأساتذة، وعشَّاق الرياضة، والأعيان.. ولم أكنْ كذلك، إذ لم يطرَّ شاربي بعد.. ولم أكن من هواةِ الحديث عن الكورة والسياسة في مرحلةٍ مبكرةٍ من العمر.. ثم تغيرَ الحال، ولكل زمن فكر، وتصور، وأحوال..!

ثم جرىٰ الزَّمان بي، وابتعدتُ عن هذه المقاهي.. بات ترددي كثيرًا على "مقهى فيصل" ، و"الشيباني"، والأخير له خبر سنعودُ إليه.. ومن أهم المقاهي التي كنتُ أسعد بالتردد إليها، "مقهىٰ دحان"، كان فضاءً مفتوحًا.. لا تسمعُ فيه إلا وقْع الكاساتِ على الماساتِ المتهالكة..!

أما مقهاية محمد عبده، فهي غائرةٌ في عمقِ التاريخ.. الجلوس فيها خروجٌ من حقبة إلى أخرى.. استوطنها التاريخ.. فهي تحفةٌ تاريخيةَ بامتياز. 

في الطريق إلى باب مشرف، والمطراق، تتوزع العديد من المقاهي في الأطراف، والأزقة الضيقة.. كنتُ كلما مررتُ بجوارها؛ أرمي نفسي في أحدها،
لكلِّ مقهى نكهة مميزة، وطبيعة مختلفة، ورواد لا تعرفهم.. تظل تحدقُ في عيونِ الزائرين.. يلتهمونَ الشاي، والحليب العدني، ويحدقون إلى أماكن بعيدة.. هذه النظرات مما توافقَ عليه البشر في كلِّ مكان.. ينظرون إلى فضاءٍ بعيد، ممتد، كأنهم يستمطرون الحظ المتواري في حجبِ الغيب، أو يشكلون حياتهم بطريقة مثالية مغايرة للواقعِ المر.. تلكم النظرات الصامتة؛ تخفي كثيرا من الضجيحِ والألم!

في يوم الجمعة من كلِّ أسبوع، يخرجُ الناس من منازلهم إلى المقاهي، والأماكن المفتوحة هروبًا من حرِّ المدينة.. ونمطية الدوام الرسمي.. ولهذا، تشكل وازدهر كثير من المقاهي؛ منها المقاهي المحيطة بحديقةِ المحافظ.. وفيها يجتمع نخبة الشباب الحالم.. ثم ينفضُّ اللقاء مع ارتفاعِ أذانِ المغرب.!

بالعودةِ إلى مقهىٰ الشيباني الذي كان قبالةَ مشفى الثورة، فقد كان مكانًا لتجمعِ طلبة العلم، من الجماعات الإسلامية المختلفة.. فإذا قدمت قبيل المغرب؛ رأيت عمائم عديدة، وحِلقا مكتظة بالشاربين للحليب العدني الذي كان يتقنه الشيباني بطريقةٍ فريدة.. فإذا ما ارتفع أذان المغرب؛ انتشروا إلى المساجد، لتلقي القرآن، وبعض دروس العلم.

ألمحتُ في المبتدأ إلى مقاهي القاهرة، وبها أختم.. كنتُ آنس بالجلوس مع صديقٍ لي، فإذا تعبتُ من زحمةِ المشافي، والطرقات، ألتقيه في مقهى من المقاهي العتيقة.. نتبادل الحديث عن العلم والقراءة والكتاب..!
وعندما انتهىٰ من غرضه بالقاهرة.. عاد إلى اليمن، لحظتها انتثرَ العقد، وتبددَ الشمل، وأصبحتُ وحيدًا في مسالكِ النفس. والمقهى من حولي كأنه دار تيه وغربةٍ..!

ومن الأمور الطريفة أني حرصتُ على زيارةِ المقهى الذي كان يكتبُ فيه أستاذ الرواية العربية، نجيب محفوظ.. وقد أشار إليه في حواراتٍ متعددة..!
زرته، وجلستُ في الكرسي الذي كتبَ فيه.. رأيتني كأني صاحبُ الثلاثية الشهيرة.. حدثتُ نفسي؛ لعلي أحظىٰ ببركةِ القلم؛ لزيارتي المكان الذي خرجت منه أشهر الأعمال الأدبية التي أوصلت صاحبها إلى نوبل العالمية!

لكلِّ حكاية مقهى..
والمقهىٰ حكاية طويلة، حكاية لا تنتهي..!

#تهاميات

خالد بريه

مقالات الكاتب

العنصرية:تلكَ عشرة كاملة

«١» تظافرتْ منذُ القِدَمِ العديدُ مِنَ العواملِ والأسبابِ المعقَّدةِ في خلقِ مجتمعٍ شديدِ التَّ...

بكل وضوح

كل شيءٍ هنا محسوب جيدًا، التهاني، التعازي، المديح، وحتىٰ التضامن.التضامن ليسَ خالصًا،دقق في أصحابِ ا...

خاطرك مجبور = أنت كفو

منذ بدايةِ رمضان، تحدَّثَ النَّاس عن برنامجِ (أنتَ كفو) البحريني، وحُقَّ لهم ذلك؛ لأنه قطعةٌ من الجم...

تهامة.. واجترار الغياب!

منذ إعلان الرياض، وإعلان المجلس الرئاسي، تساءل بعضهم، وأين ممثل إقليم تهامة؟!وهذا سؤال مشروع، إذا رأ...