هل تعرف من هو اليمني؟!
يا أنت.. اليمنيُّ هو من ينتسِبُ إلىٰ قومٍ قال الجليلُ عنهم: (فسوفَ يأتِ اللهُ بقومٍ يحبُّهمْ وي...
الرغبة في تدوينِ ما مضىٰ؛
نظمٌ لحياتين، وتاريخيْن، ومزجهما سويًا ليكونا قطعة واحدة، ذكرىٰ تتدلىٰ بينَ حينٍ وآخر.. تعيشُ فينا متقدة؛ كجزء أصيل، تظهر متىٰ شاءت، وتختفي متىٰ أرادت.
عندما طويتُ صفحة المرحلةِ الابتدائية، وشرعتُ في المرحلة الإعدادية، وجدتني فجأةً في مدرسةٍ داخليةٍ أشبه بدارِ أيتام، ذهبتُ إليها في مناسبةٍ كروية، من أجلِ اللعب، ومن بين مئاتِ الطلاب، وحده من رأيتني أتحدثُ معه، أحسستُ يومها أنَّ القدرَ جمعَ بيننا منذُ زمنٍ منصرم، كانَ لقاءً يحملُ في أغواره وجع الأيام!
لم تنقطع صلتي به منذ تلك الزيارة، كنتُ ألتقيه بين فترةٍ وأخرى، يأتي إلىٰ المدرسة لزيارتي، نلعبُ سويًا، أذهبُ إلى مسجدٍ قريبٍ من الدارِ المغلقة التي يقطنُ فيها، نثرثر بينَ مغربٍ وعشاء، ثم نفترقُ كلٌّ إلىٰ مكانه!
قبيلَ الانتهاء من المرحلةِ الإعدادية؛ كُرِّمَ في المدرسةِ التي يعيشُ فيها، كأفضلِ طالبٍ مثالي، كانَ نموذجًا لأقرانه؛ كالأفق المثقلِ بالسُّحبِ الحالمة لحظة الغروب..!
لكنَّ أحدهم لم يرق له ذلك، تعالت النِّيران في داخله، فما كان منه إلا أن أحرقَ حياة إنسان بكلمةٍ لم يلقِ لها بالًا في لحظةٍ حيوانية غابَ فيها العقل!
- لقد خدعوك بأنَّ والداكَ توفيا في حادثةِ سيْر أليم؛ الحقيقة أنكَ لقيط، وجدك أحدهم في برميلِ قمامة، في "لفافةٍ بيضاء"، ثمَّ وضعتَ في هذا المكان!
لا أنوي الحديث طويلًا عنِ الحالة التي تلبَّست صديقي، بل لأكن صادقًا لا أقو علىٰ ذلك، لقد كان وقعها عنيفًا، تطاير شررها بصورةٍ لم تخطر ببالِ الحاسد الذي تفوه بكلمته ككرة طائشة تمعنُ في تهشيمِ النَّوافذ!
كعادتي، ذهبتُ لأسال عنه، لم يجبني أحد، أحدهم أخذني من يدي، وأخبرني بما حدث، فاضت عيني، وكنتُ فتيًا على سماعِ حادثةٍ كهذه، عدتُ أجرُّ أذيال الحزن، والأسى.. أفكرُ بصديقي أين، وماذا يفعل؟!
ولم أزل بينَ جدّ الأنواءِ وهزلها، وافتراق الأيام وضياعها، وبين شدة وطأة ما التفّ بحياتي مذ علمتُ بحاله؛ وبعد أيام طويلة من غيابه المضني؛ رأيته بثيابٍ رثة، وشعر منكوش، يمشي على غير هدى، ضممته إلىٰ صدري، بكىٰ وبكيت. ما فعلتَ بنفسك، قلتُ له، وأنا أميطُ بقايا التراب المتشبث بملابسه!
- أبحثُ عن والداي.. أمنيتي أن أجدهما، لا لشيء، فقط أريد أن أسألهما لماذا فعلا بي كلَّ هذا؟!
وعلىٰ حين غفلةٍ مني؛ ركضَ مسرعًا، وغاب عن ناظري، كما تغيبُ نجمة في الفضاء، إنه يثبُ لا عن خوفٍ من أحد، ولكنه يهربُ من نفسه، أدرك أن الوقوف في وجه الحقيقة شاق وثقيل! منذ ذلكم اللقاء لم ألتق به، كانت حياتي يومًا طويلًا بلا مفاجأت، أنتظر بشغف خيط يوصلني إليه، أو خبر يسكنُّ خاطري..!
بعد سنة أو تزيد، أمسك أحدهم بيدي، كانَ معلمًا في الدار، قال لي: عظَّم الله أجرك، توفي فلان، وُجد ميتًا في زاوية نائية، فجرًا....!
لستُ هنا لأحدثكم عن ثقل تلكَ الليلة، وضراوة الخبر الذي كسرَ قلبي، لكنَّ الذي يعنيني، النظر في مآل كلمة خرجت في لحظةِ حسدٍ وغيظ، كيفَ اغتالتِ الرَّبيع!؟
الإنسان، قبلَ أي شيء، أشبه بمادة تتمزقُ بسهولة، وتلتئمُ بصعوبة. يحضرني الآن فيلم تكفير/Atonement؛ وكيف لكلمة/ وشاية تعصفُ بحياةٍ كاملة من الحب، والجمال، وشاية قضت بالفراق الأبدي الذي لم يلتئم إلا في مخيلةِ الواشية، في مرحلة ندمها؛ جمعت بينهما في سطورِ رواية؛ كفَّارة عن وشايتها التي دمَّرتِ الحلم.
نحن لا نعرف أنَّ كلمة، تحيي، وتميت، وترفعُ وتخفض، للكلمة قدرة على الخلود والسفول، الكلمة طوفان يدمر كل شيء لحظة التفوه بها، كلمة عابرة من انتقاص؛ جديرة بتدمير حياة إنسان، كلمة جارحة تقولها في لحظة آفة من آفات النفس وقعتَ فريسة لها؛ تفتح ثقبًا في الجحيم يلتهم كل شيء..! كلمة من حاسدٍ أودت بصديقي البريء، الباحث عن الحقيقة في ليلةٍ معتمة!
وداعًا:
"يا هواء أيامي الخانقة"
افتقد قطرات النَّدىٰ في حلقي؛ منذ رحيلك.
خالد بريه