عدن.. فطرية الجمال!

العلامة اللغوي تمام حسان كتب رسالته الدكتوراة عن "اللهجة العدنية"، مستنبطًا موازين التنغيم وقواعد النبر في اللغةِ العربية!
هذه المعلومة ستجرني للثرثرة عن عدن التي أحببتها. وإني امرؤٌ أجدني دومًا بالقربِ من المظلوم، والمنسي، وعدن ثغرنا الغائب، كذلك.

اللهجة العدنية لهجة جميلة، سهلة، محببة إلىٰ نفسِ المستمع، ظريفة لا تُمل، لا أدري، أشعر أنها تدعو للبهجة عند سماعها.. لاسيما عند أبناء عدن الذين تشربوها، وليس من وفدَ إليهم.

كل شيءٍ في عدن جميل، ومبهج، ولولا ظلم الزَّمان وأربابه؛ لكانت من درر مدنِ الشَّرق، مدينة قابلة للنهوض في بضعِ سنوات، لأنها تمتلك عوامل الحياة والبقاء والعطاء، تاريخًا ومكانًا وإنسانًا.

الإنسان العدني، إنسانٌ لطيف، بسيط، يشبه إلى حدٍ كبير الإنسان التهامي؛ تجد الناس مجتمعة بعفوية في الحافات، بينهم شخص مضحك يلقي النكات، والأطفال قي الأزقة يمارسون طقوسهم الخاصة، والأسماك تباعُ على قارعةِ الطرق.. والأجواء يفوح منها عبق البخور العدني.. لا سيما الأماكن القديمة مثل القلوعة وكريتر.

إلىٰ ما قبل النكبة الأخيرة التي حدثت لعدن، كانت مثارًا للعجب والدهشة في التنظيمِ والترتيب.. قبل أن تتحولَ إلىٰ ساحةٍ للعبثِ والخراب..! ولهذا، أوقنُ أنَّ عدن تحتاج فقط إلى الإيمان بالمدينة، والتخلص من أصحاب المشاريع العابرة..!

الناس في عدن كان يُضربُ بهم المثل في التزام الطوابير، والنظام، حتى إذا أردنا - نحن أبناء الشمال - أن نعيرَ إنسانًا يحاولُ أن يكون منظمًا، نقول له بسخرية "حياك الله يا صاحب عدن".

منذ العام تسعين تم التعامل مع عدن وكأنها مدينة من مدنِ الأطراف، مدينة هامشية، تابعة للطيرمانة، مع شيء من دفن محاسنها، وتغييب حقيقي لمقدرات المدينة التي كانت درة من دررِ الشرق في لحظةٍ سابقة.. تمَّ تجاوز كل هذا التاريخ والجمال بحججٍ واهية!

عشتُ في عدن فترةً لا بأسَ بها، ما شعرتُ بالغربة أبدًا، لا سيما في القلوعة، تلكَ البقعة المكتظة بالبشر، حياة الناس هناك غريبة، تستحقُ أن تعرض في فيلمٍ سينمائي يشاهده العالم عن جزءٍ من الحياةِ في عدن..!

تخيل أن تعيشَ في مكانٍ ضيق بين باب منزلك، وباب جيرانك مترين، يجمع بينكما بهو، وممرات ضيقة، وفي كل "بلك" تعيش أكثر من 20 أسرة، وكل أسرة لا تقل عن 5 أشخاص، لك أن تتخيل هذا المكان المحدود الصغير يعيش فيه كل هؤلاء البشر.. كأنهم أسرة واحدة..!

كانت جارتنا أم حلمي، لا تنقطع كل ليلة من إعداد الشاي لنا، بسبب انتهاء الغاز وصعوبة الحصول عليه في الفتراتِ السابقة، تقدمه لنا بكلِّ حب، بينما الجار الآخر سهيم، الظريف، لا يتوقف عن إمدادنا بأكلات عدنية خالصة من صنع أهله في المنزل. بين حينٍ وآخر.

عدن فاتنة في كلِّ أوقاتِ اليوم، تراها بعد الفجر؛ فتظنُّ أنَّ الجمال حطَّ رحاله هنا وتوقف، ثم تنظر إليها عند الغروب فتشعر أنَّ البهاء لم يبرحها أصلًا، أما النظر إليها ليلًا من مكان مرتفع، فهو فتنة لا أعيذك بالله من النَّظر إليها.

من هوسي وحبي للمدينة،
كنتُ كل يوم أتسكعُ ليلًا مع رفيقي المستكع الشهير، ثم نشرعُ في تطوير المدينة، ونتخيل لو أقيم هنا كذا، وصنعنا كذا، تخيل أنَّ هذا المكان لو رُتب ليكونَ مطلًا على البحر من هذا الارتفاع؛ لوجب شدّ الرحال إليه.. وهكذا يمضي بنا الوقت في النهوض بالمدينة عبر الأحلام المرجوة لشابين عاشقين لمدينةِ البحر والجبل!

لسنواتٍ طويلة كان الإعلام ومقدراته حصرًا في بقعةٍ واحدة، لونٌ واحد، ولهذا ما عرفنا الفن اليمني إلا من خلالهم، مجموعة من الفنانين التقليديين الذي يذهبون ويعودون كل عام بنمطٍ سائد، والحديث عن ثقافة واحدة كأنها هي اليمن دون سواها.. وعندما قرر أبناء عدن اجتراح هذا الباب، صنعوا أفضل فيلمٍ يمني وصلَ إلىٰ العالمية، عشرة أيام قبل الزفة، وقبلها بعض الدراما التي حققت نجاحًا كبيرًا.. السؤال: أين كان هؤلاء؟ لماذا لم يظهروا من  قبل؟ الجواب: عليك أن تصمت فقط.

أخيرًا: أخبروا المدينة أني أحبها، وأحبُّ بحرها، وأنفاسها، وبخورها، وأسواقها، وأزقتها، وحديث أهلها. ولدي يقين أن عدن ستأخذ مكانها الذي تستحق في ظل حكم عادل يعيد للمدن المهمشة العظيمة مكانتها وحقها في الوجود.


خالد بريه

مقالات الكاتب

هل تعرف من هو اليمني؟!

يا أنت.. اليمنيُّ هو من ينتسِبُ إلىٰ قومٍ قال الجليلُ عنهم: (فسوفَ يأتِ اللهُ بقومٍ يحبُّهمْ وي...

العنصرية:تلكَ عشرة كاملة

«١» تظافرتْ منذُ القِدَمِ العديدُ مِنَ العواملِ والأسبابِ المعقَّدةِ في خلقِ مجتمعٍ شديدِ التَّ...

بكل وضوح

كل شيءٍ هنا محسوب جيدًا، التهاني، التعازي، المديح، وحتىٰ التضامن.التضامن ليسَ خالصًا،دقق في أصحابِ ا...

خاطرك مجبور = أنت كفو

منذ بدايةِ رمضان، تحدَّثَ النَّاس عن برنامجِ (أنتَ كفو) البحريني، وحُقَّ لهم ذلك؛ لأنه قطعةٌ من الجم...