وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
مرت عدة أسابيع لم أزر أثناءها مقهاي الأثير. النادلة الإيطالية الشابة كعادتها منهمكة في خدمة الزبائن. ترمقني فتحييني كالعادة دون أن ترتسم الابتسامة على شفتيها. تنتهي من زبونيين ثم تعد لي فنجان الاسبريسو دون السؤال. في آخر مرة زرت المقهى تساءلت عن المصير الذي ينتظر هذه النادلة إن وصل الى رئاسة الوزراء ببريطانيا من يؤمن بالخروج من الاتحاد الأوروبي، أيا كان الشكل.
تسلمني النادلة الفنجان وأذناي يملأهما ضجيج موسيقى (الجاز). عدد الزبائن قليل هذه المرة. قبل أن أجلس أنتبه إلى وجود شابة إفريقية مستغرقة في القراءة في شاشة هاتفها المحمول. يبدو أنها طالبة أجنبية. لا أدري على كل حال. لكن مستقبلها في هذا البلد قد يكون مضمونا شريطة أن تلبي معايير يراها من خلف تيريزا ماي في زعامة حزب المحافظين ورئاسة وزراء المملكة المتحدة.
كان آخر تبادل للحديث بيني وبينه أواسط فبراير عام 2017. تحت سماء ماطرة رمقته في المقعد الخلفي لسيارة رسمية توقفت بالقرب مني في بمدينة بون الألمانية. لوحت له بيدي فرد علي بكفه الغليظ،وأنزل زجاج النافذة صائحا بصوت كأنه خارج من كهف سحيق: "هاي... كيف الحال؟". كان هذا حاله مع الصحفيين منذ عرفته عمدة لمدينة لندن. بسرعة قلت إن الفرصة مواتية في مدخل قاعة مؤتمر وزراء خارجية مجموعة العشرين، لكي آخذ تصريحا مقتضبا من بوريس جونسون، وزير خارجية بريطانيا آنذاك. ما إن سرت بصع خطوات حتى رن الهاتف، نظرت إلى الشاشة فإذا به رقم غرفة التحكم في القناة التي أعمل معها. هذا القسم لا يمكن تأجيل الرد عليه، لأنه ببساطة لا يتصل إلا قبيل حلول موعد الرسائل المباشرة، والغرض الرئيسي من وجودي في بون هو تقديم رسائل مباشرة عن مؤتمر مجموعة العشرين.
سيختفي بوريس جونسون بسرعة، وتضيع علي المقابلة. لكن وبعد يومين، بينما كنت جالسا في المركز الإعلامي لمؤتمر الأمن بمدينة ميونيخ، أثار انتباهنا ضجيج منبعث من مكبرات صوت شاشات التلفزيون.
إنه بوريس جونسون. بشعره الأشقر المُهمَل، كالذي كنت أتخيله لما درّسونا في الطفولة رواية (Poil de Carotte) للروائي الفرنسي جول رونار.
كان جونسون يحرك يده في الهواء مخاطبا الحاضرين في مؤتمر ميونيخ للأمن، والحاضرون يصغون إليه. فهو حينها كان رأس الدبلوماسية البريطانية، وعيون أجهزة المخابرات كانت ترصد أحلامه ...
وما هي إلا دقائق حتى اهتزت القاعة الفسيحة التي تضم كبار دبلوماسيي العاام وصناع القرار والحكماء وخبراء الأمن. لقد تحدث بوريس جونسون عن البريكست وضرورة خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي. ولأنه مندفع في كل شيء، رغم تكوينه العميق في الآداب الكلاسيكية منذ العهد الإغريقي إلى عصر الأنوار، فقد قال الجملة التالية:"لقد حان الوقت لكي تتحرر المملكة من الأوربيين".
ثارت ثائرة الكثير من الأوروبيين. كيف لبريطانيا التي كانت الشمس لا تغرب عن إمبراطوريتها، أن تطلب التحرر لنفسها؟!. لم يلق بوريس بالا إليهم، ثم مضى ليقتبس من كتاب يتحدث عن أفول نجم الحضارة الأوروبية.
سارعت إلى تدوين عنوان الكتاب (The Decline of the West) لمؤلفه الألماني فيلسوف التاريخ أوزوال سبانجبر Oswald Spengler. وفورا طلبت نسخة منه عبر تطبيق أمازون، ثم عدت لتغطيتي العادية.
سأبحر لاحقا في فصول الكتاب الذي يضم جزأين، ويقسم فيه المؤلف تاريخ البشرية إلى ثقافات وليس مراحل زمنية متعاقبة. يرى أوزوالد أن الحضارات تبدأ في شكل ثقافات وهويات معينة، وتمر بمراحل النمو واشتداد العود والشوكة، لتصبح حضارة، ثم تشرع في التهافت إلى أن تندثر. وهو يقدر أعمارها بنحو ألف عام. يذكر من هذا الحضارات الفارسية والاغريقية والرومانية والعربية ثم الغربية. صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1918، وفيها توقع بداية انهيار الحضارة الغربية.
على العموم لم تنهر بعد. والدليل أنني جالس الآن في مقهى بجنوبي العاصمة البريطانية، وبالقرب مني فتاة إفريقية.
أرفع رأسي، لم تعد الفتاة الإفريقية في مقعدها. لقد انصرفت دون أن تحدث ضجيجا. وفي مكانها تجلس فتاتان أوروبيتان تتجاذبان أطراف الحديث بصوت مرتفع، وأمامي تمر النادلة الإيطالية عائدة إلى "الكونتوار".
مر حوالي عامين ونصف العام على حادثة ميونيخ. خلال هذه الفترة استقال بوريس جونسون من وزارة الخارجية احتجاجا على كيفية إدارة تيريزا ماي لمفاوضات البريكست. وخلالها أيضا بدأ إجراءات الطلاق من زوجته، وانتقل للعيش مع شابة تصغره بعشرين عاما. وخلالها كذلك فقد بعضا من وزن جسده، وعمل في البرلمان ضمن الصفوف الخلفية لحزب المحافظين، واكتفى بتوجيه الانتقادات لرئيسة الوزراء.
لكنه أثناء هذه الفترة، بدأ تنفيذ هطة حبكها هذا السياسي الذي ولد في نيويورك، وتجري في عروقه دماء جد مسلم شركسي، وجد يهودي من أوروبا الشرقية، وجَدٌّ كان أحد ملوك بريطانيا. إنه مزيج عجيب من المتناقضات.
بدأ حياته المهنية في الصحافة بعد أن تخرج من جامعة أكسفورد العريقة. وبعد سنوات قليلة سيطرد من عمله في إحدى الجرائد لأنه ثبت كذبه في أحد المقالات.
وقبل أسابيع حاصره أندرو مار في برنامجه الشهير على قناة بي بي سي، حينما كرر عليه سؤالا حول ادلائه بمعلومات خاطئة. اعترف جونسون بأنه كذب. اعترف غيرما مرة بذلك. لا يهم... فهو كائن سياسي قار على التلاؤم مع كافة الأوضاع.
يوم الثالث والعشرين من يوليو الجاري سيختار غالبية أعضاء حزب المحافظين بوريس جونسون زعيما لهم، وسيصبح رئيسا لوزراء بريطانيا.
خرجت تيريزا ماي من داونينغ ستريت، وفتح الباب الأسود لبوريس، فوجد موظفي المبنى الكئيب بانتظاره، كلهم يصفقون. لسان حالهم يقول: مات الملك، عاش الملك!.
هذه هي سنة الحياة.