وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
بدأ في وسائط التواصل الاجتماعي ما يشبه تيارا يبرر التخلي عن كبار السن المصابين بفيروس كورونا، بل ويعتبر الجائحة الحالية فرصة للتخلص ممن يعتبرونهم ضيوفا ثقيلي الظل، طال مقامهم أكثر من اللازم.
أصحاب هذا الرأي، ومن بينهم أيضا سياسيون، يعتبرون أن تطور الخدمات الطبية جعل الناس تعيش مددا أطول، وهو ما يعني استنزافا لصناديق التقاعد، ولأنظمة الرعاية، وبالتالي فإن وفاة كل معمر تعني الاحتفاظ بموارد مالية لشباب اليوم الذين تعاني شريحة منهم من البطالة وسوء الخدمات العامة التي تحصل عليها.
من الناحية الحسابية قد يكون هذا مغريا للمغرمين باختصار البشر كأرقام. لكن لنبدأ بالسؤال المركزي في حياتنا كمجتمعات.
هل المكاسب المشتركة التي نستفيد منها، ومن بينها الأمن وحدود الأوطان والسفر على الطرقات وغيرها كانت هنا منذ الأزل، أم ثمة من فكر فيها وخطط لها ومولها وبناها لنا بالتدريج؟.
غالبية من بلغوا الثمانين من العمر في البلدان الغربية وغيرها، عاشوا إما في أتون الحرب العالمية، أو كانوا ممن أعادوا إعمار ما نجم عنها من خراب.
بريطانيا التي تنفس فيها الكثير من الجهلة الصعداء وهو يظنون أن هذه الفئة ستتسارع وتيرة موتها، وبالتالي يخف الضغط عن الدائرة الوطنية للرعاية الصحية NHS ، ربما لا يعرفون أن هذا النظام الرائع بدأ في منتصف أربعينيات القرن الماضي مع هؤلاء المسنين لما كانوا شبابا، وبسواعدهم وضرائبهم واختراعاتهم وصل إلى ما وصل إليه.
شاهدت على التلفاز شابة في باريس تقول إنها ستكون سعيدة حين يكف والدا زوجها عن زيارتها في البيت واللعب مع أحفادهما.
ربما غاب عن هذه الغبية أن الجدّين يكونان أول مصدر لتطوير الشعور بالانتماء والامتداد لدى الطفل. وذكراهما أكثر ما يعلق بذهنه لما يبدأ في النمو . والحنين إليهما يجعله أكثر عطفا على والده ووالدته لما يشرع الزمن في تسطير تجاعيده على وجههما. حينها لا المساحيق ستنفع هذه التي لا زالت شابة اليوم، ولا عمليات شدِّ البشرة والبوتوكس ستعيد لوجهها النضارة.
صناديق التقاعد التي يتألم عشاق الأرقام من وجعها ما هي إلا أموال كانت تقتطع بموجب القانون، أو وضعها المشتركون اختيارا في بنوك خاصة، لتكون لهم سندا بعد اليوم الذي تتوقف عجلة إنتاجهم عن الدوران. هي إذن ليست صدقة.
في جل الدول تلتهم الضريبة على الدخل نحو أربعين في المائة. أي إنها تبتلع أربعين في المائة من عرق الشباب والكهول، وتظل إدارات الصرائب تلاحقهم إلى أن لا تجد ما تأخذه منهم.
من الناحية المبدئية تلك الاقتطاعات تمول الجيوش الحامية وقوات الأمن الحارسة والبنى التحتية السالكة، وجهود الصحة المعافية والمدارس المربية. إذن هم من هيأوا سبل ولادة ونمو ودراسة واستشفاء من تنتفخ أوداجهم اليوم غضبا من المسنين.
يقال إن لهيب النار يكشف المعادن ويفرزها. وكورونا نار كشفت عن معادن الكثيرين. وبينت خللا رهيب في نفوس وتفكير شرائح من المجتمعات الغربية. فحتى الصين التي توصف بأنها مادية التفكير والهوى، لم نسمع عن أصوات فيها تنادي بقتل من بلغوا من العمر أرذله. وفي المجتمعات العربية أتمنى أن لا يوجد فيها من يقلد المصابين بعقدة أوديب Oeudipus.
أخيرا لنا أن نتخيل كيف ستكون الصور العائلية في إيطاليا إن لم يكن فيها الحد حاضنا لحفيدته. زميلي المصور طوماسو، شاب إيطالي، كلما سافرت وإياه في مهمة صحفية إلى بلد ما، يستحوذ جده على جزء كبير من ذكرياته. فلما تركه والده صغيرا وذهب للعيش مع امرأة أخرى، كان أب والده هو الحاضن له، وقبل أن يموت كتب شقته في اسم طوماسو.
صوت العقل والوجدان يقول: الموت أحبُّ إلى القلب من أن يُضحَّى بجدود وآباء بجهودهم وصلنا إلى لحظة الناس هاته.