وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
في أحد أيام بدايات سني مراهقتي وجدتني أجلس، غير مدعوٍّ، على أطراف حلقة من علية القوم المحليين، داخل مقهى شعبي. كنا على أعتاب انتخابات تشريعية. وكان المتحدث الرئيسي ينتمي لأحد الأحزاب التقليدية التي اعتاد أصحابها على دخول جل الحكومات التي تعاقبت على إدارة المغرب.
كان الحاضرون ممن لديهم منازل في المدينة، ولهم في الأرياف قطعان كبيرة من الماشية، وأراضٍ زراعية مترامية الأطراف. كانوا باختصار ناجحين في أعمالهم، لكن نصيبهم من المعرفة لم يكن يتجاوز عدَّ الأوراق النقدية. أما الكتب فبالتأكيد لم يكونوا يعرفون منها غير وثائق الحالة المدنية، ودفتر تدوين المبيعات والمشتريات. وذو الحظ العظيم في العلم كان لديه دفتر الشيكات التي كان التعامل بها آنذاك دليلا على التحضر والوجاهة.
كانوا جميعا يرتدون جلابيب صوفية ويلفون حول رؤوسهم الحليقة بالشفرة، عمائم بيضاء ناصع لونها.
لا زال صوت المتحدث يتردد جهوريا في أذني. لقد كان واثقا مما يقول، والعلية حوله مطرقون مصغون. أتذكره يقول قولا لن أنساه ما حييت:"عليكم وأنتم تستعدون لإيصال أخينا وحبيبنا فلان إلى دار البرلمان، أن تطرقوا كل البيوت والخيم. أقيموا المآدب وأكثروا للمدعوين أطباق اللحم والدجاج. واعلموا أنه بعد الطعام يجب أن تخطبوا فيهم. والخطابة تحتاج لمن يلهب حماسهم ويطلق العنان لخيالهم، بكلمات رنانة ووعود بالجنة في هذه الأرض. نحن لسنا بحاجة لمن ينظِّر ويتفلسف، فهذا الكلام الأجوف اتركوه لمجاذيب الجامعة والأساتذة من ذوي الشعر الطويل. نريد منكم اختيار النساء المفوّهات اللائي لا يرف لهن جفن وهن يكذبن، ومن الرجال من لا يخجل من القول اننا سنبني لهم مطارا قريبا من مضارب خيمهم".
مضى أكثر من 35 وثلاثين عاما على ذلك اليوم. ربما مات جل من شاركوا في تلك الحلقة. حتى النائب البرلماني دارت عليه دورة الزمان ولم يعد لا ثريا ولا برلمانيا. لكن قفزت صورة هؤلاء أمامي وأنا أتصفح الانترنت هذا الصباح على هاتفي. على أحد المواقع قرأت "للإيجار عبر الاونلاين، مؤثرون في شبكات التواصل الاجتماعي. Social media influencers for hire online).
كثر في الآونة الأخيرة الاهتمام بفئة من رواد وسائل التواصل تمكنت بطريقة عجيبة من استقطاب مئات الآلاف، وأحيانا الملايين من المتابعين والمعجبين.
لم أبال في البداية بهذه الظاهرة على اعتبار أن هؤلاء ليسوا سوى فقاعات لا يمكن أن يركن امرؤ عاقل إليها. في أحد الأيام جاءني طلب صداقة على فيسبوك من فتاة لا اعرفها. ولأنني أتعامل في الغالب الأعم بحذر شديد، فتحت أولا صفحتها لمعرفة من تكون، فإذا بي أمام صورة امرأة لا يظهر وجهها، ولا تضع أي معلومة عنها. لكن المفاجأة التي أذهلتني هي أن عدد متابعيها تجاوز عشرة آلاف ذكر. كلهم من البلدان العربية. ألغيت طلبها فورا. لكن بقيت أتساءل ما الذي يحمل هذا الجيش العرمرم من الأشخاص على متابعة صورة امرأة كل ما يظهر منها هو الجسم المكتنز . أليس هذا دليلا على أن ما يهم هذه الشريحة من المخلوقات هي أجسام بلا عقول؟. أم ترى هناك جهة ما تستدرج الناس وتطلب الصداقات بهدف حشد أكبر عدد من "المتابعين":
على مر السنوات القليلة الماضية تزايد الاهتمام بهذه الفئة من "المؤثرين"، وأصبحت بعض المؤسسات تشترط في موظفيها أن يثبتوا لها أنهم أصحاب تأثير في الجمهور من خلال رفع عدد المتابعين وعدد "اللايكات". لم ينج الوسط الصحفي من هذه الآفة. تحضرني قارئة أخبار سابقا في إحدى القنوات، كانت كلما انتهت من تلاوة ما هو مكتوب لها في النشرة، تهرول إلى هاتفها لوضع صورة جديدة من النشرة إياها وانتظار تعليقات المعجبين الهائمين في "جمالها" و"عمق تحليلاتها". انتقلت العدوى لبعض الذكور الذين بزاحمون أمثال تلك المذيعة في التقاط الصور في أوضاع أقرب إلى التخنث.
اللجوء الى السوشيال ميديا ليس عيبا، فهو لا يختلف كثيرا عن جل أشكال الدعاية التقليدية التي كانت تمرر عبر الصحف والإذاعات وقنوات التلفزة والتجمعات الخطابية. فلا يكاد يمر يوم واحد دون أن يبلغني إشعار بمقطع فيديو لبوريس جونسون يعرض فيه أحدث ما قام به من أنشطة، أو مؤتمر صحفي مباشر من مقر الخارحية الأمريكية في واشنطن.
هذا أمر جميل ومحبب. لكن الوضع يكون مختلفا حينما تصبح السوشيال ميديا ميدانا لتسطيح الوعي أو تزييفه، والكذب على المتتبعين والمشغِّلين. بل وتتحول الى منصات للي عنق الحقائق وإطلاق التهم وتلفيق الأخبار.
لقد اختصرت هذه الوسائط الزمن والمسافات وقللت التكاليف، لكنها خلفت مشاكل نفسية واجتماعية ومعرفية حقيقية. يقول مقربون من أحد زملائي في المهنة، إنه يقوم في الليل مرات عدة لإلقاء نظرة على صفحاته في هذه الشبكات، فإذا كان التفاعل معه جيدا يعود لينام قليلا، وإن كان هذا التفاعل قليلا يصاب بنوبات اكتئاب وغضب وضيق في التنفس.
تكون الطامة أكبر حينما نكتشف أن بعض هؤلاء "المؤثرين" ليس سوى طفل موهوب في مجال الخطابة أو النقل، أو ذكر ينتحل هوية فتاة، أو فتاة حقيقية لديها من المظهر ما تغري به ذوي النزوات.
لقد تحقق ما هلص إليه ذلك المتحزب قبل 35 عاما حينما قال إنه لا يريد المنظرين والمثقفين. فلو تقوم بجولة عبر صفحات الكتاب والروائيين والمفكرين، ستجد أنهم في أحسن الأحوال محاطين بقلة من الطلاب والباحثين وطبعا بحسابات أنشها عناصر من أجهزة المباحث في الدول البوليسية. حتى الأحزاب السياسية الرصينة لم يعد يتابعها الكثير، ولجأ بعضها الى العمل بنصيحة ذلك المتحزب حينما قال مخاطبا العلية من البدو "نريد منكم اختيار النساء المفوّهات اللائي لا يرف لهن جفن وهن يكذبن، ومن الرجال من لا يخجل من القول اننا سنبني لهم مطارا قريبا من مضارب خيمهم".
حين تصفحت الموقع الذي يتحدث عن المؤثرين الجاهزين للايجار، فوجدته فعلا لا يختلف كثيرا من حيث العمق، عن حديث صاحبنا قبل أكثر من قبل 35 عاما.