وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
بهدوء وصعوبة وقف رجل مسن وقور من مقعده، فصمت الآلاف ممن كانوا في قاعة الميلينيوم. هدأت الطبول والآلات الموسيقية. ركز مخرج التغطية بالكاميرات على وجه أسياس أفورقي الذي مد عنقه جيدا للتحقق من ملامح العجوز.
لم أفهم الكثير مما كنت أسمع، لكنها كانت تراتيل وأدعية يتلوها ذلك الرجل الذي ذكرتني هيئته بالراحل الأنبا شنودة، بابا الكنيسة القبطية.
تفاعل الجمهور الحاضر مع تلك التراتيل. لم أشعر بأي فرق بين هؤلاء والمسلمين.
في صباح ذلك الأحد، كنت قد استيقظت باكرا على مكبرات صوت ذكرتني بقراءات الفجر . كانت تنبعث من كل أنحاء أديس أبابا. فتحت نافذة الغرفة في الفندق، فإذا بي أنتبه إلى أن الأمر يتعلق بقداسات الأحد الأحد، وليس أصوات مقرئي صلاة الفجر في المساجد.
كان جمهور الميلينيوم يتفاعل بخشوع مع أدعية الأسقف. بدا التأثر على محيا أفورقي. فهذه الدعوات ليست غريبة عنه، لأنه بدوره معتنق للديانة المسيحية.
لا توجد أرقام دقيقة عن عدد المسيحيين في اثيوبيا، لكن التقديرات تشير إلى أنهم يمثلون أكثر من ستين في المائة من سكان البلاد، متبوعين بالمسلمين.
ظلت الكاميرا تتنقل بين وجهي أفورقي ورئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، وهو مسلم. كانت عينا هذا المسؤول الشاب تشعان فرحة وخشوعا.
نطق الحاضرون: آمين
فصمتت القاعة لوهلة، ثم وقف شيخ آخر كان يجلس بجانب الأسقف حول المائدة، أخذ الميكروفون من جاره، وبدأ كلامه بالصلاة على النبي محمد. إنه إمام عموم مسلمي إثيوبيا. لم يخفت تجاوب الحاضرين معه. ففي هذا البلد لا تكاد تميز بين اتباع المسيحية والاسلام الا ببعض الرموز الدقيقة في الملابس التقليدية، أو بالصليب المرسوم وشما، أو إن كان قطعة خشب تتدلى فوق الصدر.
لا يختلف الوضع في الجارة إريتريا، فالمسيحية والإسلام دينان منتشران فيها. في خريف عام 2015 نزلت في ميناء مدينة عصب الاريترية، خيل لي في البداية من ملامح السكان أنني في اليمن أو بإحدى قرى الساحل العربي. لكن بروز الصلبان فوق قبور مهملة مررت بها، هي ما بدد ذلك التشابه.
ما لا يعلمه الكثير من الناس، هو أن هذا إريتريا كانت أول بلد إفريقي يدخله المسلمون، لا بالقوة، وليس بهدف إقناع السكان باعتناقه، وإنما كلاجئين. فحين طغى سادة قريش وأمعنوا في اضطهاد النبي العربي وأتباعه الأوائل، أوصى النبي مجموعة من المسلمين بالهجرة الأولى نحو الحبشة، فكان له ذلك، حيث استضافهم ملك مملكة أكسوم، أصحمة النجاشي، ووفر لهم الرعاية والحماية!. وهذه المملكة كانت في منطقة تيغراني في اريتريا الحالية.
بعد أن تماهى الحاضرون في قاعة الميلينيوم مع الأدعية بالمسيحية والاسلام، ارتفع صوت الحاضرين صادحا "تيدي ، تيدي، تيدي!". استدرت متسائلا نحو زيلالام، المصور الاثيوبي الذي رافقني من أبو ظبي، فقال لي إنه مغن ذو شعبية واسعة، تعرض للقمع أثناء عهد رئيس الوزراء الراحل ميليس زيناوي، وها هو ذا يتنفس الحرية، ويحظى بتكريم شعبي ورسمي عقب وصول أبيْ أحمد إلى الحكم.
لا يذكر اسم زيناوي، إلا ويكون مقرونا بذكريات القمع والفساد!.
يتبع....