وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
قررت أن أبدأ يومي بجولة في مركز التسوق القريب من محل سكناي، لأنه يختزن الكثير من ذكرياتي، ويقدم لي أحيانا صورة مختصرة عن الجمود أو التغيير الحاصل في بريطانيا.
كانت الساعة تشير إلى حوالي التاسعة صباحا، ولا يوجد في المحال التجارية والمساحات الفاصلة بينها سوى العاملين فيها، وبعض المتسوقين من المسنين أو ذوي الاحتياجات خاصة. مررت بجانب سيدة من أصول هندية وهي تقول "لقد جئتَ اليوم متأخرا عن عادتك!". كانت تنظر من سلم الطابق الفوقي، ومن الأسفل رأيت رجلا بدينا يبدو أن وزنه جعل حركته صعبة، وعجل بظهور ملامح الشيخوخة السابقة لأوانها على جسده. رد عليها بلكنة لندن الشعبية (الكوكني):"لقد وجدت صعوبة في النوم خلال الليل".
بينما أنا أسير فوجئت لااختفاء إحدى المكتبات التي كنت كثير التردد عليها في بدايات عهدي بهذا البلد، قبل أن أصبح أقتني الكتب من موقع أمازون وأشباهه.
شعرت ببعض الحسرة وأنا أتذكر الساعات التي كنت أقضيها متجولا بين رفوف تلك المكتبة وأقسامها، باحثا عن الكتب التي تدخل في نطاق اهتماماتي المتعددة. لن أنسى ما لكثير من الكتب التي اشتريتها هنا أفضال علي في تعميق معرفتي بالمجتمع البريطاني، وزيادة في توسيع أفاق معلوماتي عن الحياة.
واحسرتاه. أين مضى أولئك العمال المتسمون بالخفة والابتسامة الفياضة والإلمام الدقيق بآخر ما كانت تجود به دور النشر .
في مكان لافتة المكتبة القديمة، توجد أخرى حديثة لامعة، كتب عليها: صالون تجميل وتدليك.
إنه مكسب آخر يضاف إلى مساحات البيع التي يسيطر عليها هذا النوع الطارئ من الخدمات.
يقطع علي خط الكتابة في هذه اللحظة صراخ شاب يشتم نادلتي المقهى، لأنهما تأخرتا في إعطائه المفتاح الرقمي للمرحاض. إنه شاب أشقر الشعر، يرتدي ملابس عمال الطلاء. ولكنته تدل على أنه ممن لفظهم النظام التعليمي قبل الوصول إلى الجامعة.
أمثال هذا الشاب نتاج لأسر تعيش غالبيتها على المساعدات الحكومية، وتمعن في احتقار التعليم، وتنحي باللوم على الأجانب الذي جاءوا الى هذا البلد لكسب عيشهم بعرق جبينهم، كما هو حال النادلتين.
كانت الحسرة تعتصر قلبي وأنا أغادر المكان الذي كانت فيه المكتبة، وقد سيطر على تفكيري السؤال التالي: كيف انتقل محل المكتبة من خدمة العقول إلى خدمة الشعر وتلوينه، وتدليك الجسم وتمرينه.
لكن بعدما نزلت الى الطابق السفلي من مركز التسوق، شعرت بشيء من الانشراح.
صحيح ان الكثير من المتاجر أغلقت نتيجة لافلاس اصحابها. فجل المنتجات التي كانت تعرضها للبيع، مصنوعة في الصين أو الهند، ومعظمها من النوع غير الجيد، وغير القادر على المنافسة على صعيد الجودة.
سبب انشراحي هو متجر WhSmith المتخصص في بيع الكتب والمجلات والورق ومواد الطباعة وغيرها.
من هذا المتجر بالذات اشتريت جل كتب علوم الاعلام IT حينما كنت أعمل في موقع بي بي سي عربي عقب اطلاق خدمته أواخر عام 1999. كانت تلك الكتب خير معين لي على فهم هذا المجال الذي كانت البشرية حديثة عهد به. ولن أنسى الساعات الطوال التي سهرت فيها لتعلم تقنيات تشفير HTML ومعالجة الصور عبر Adobe Photoshop وغيرها كثير مما كان يتطلبه عملي آنذاك.
أول ما سأقرأه وأنا أجتاز بوابة المتجر هو كتاب يحمل عنوان (نباتي Veg) من تأليف جيمي أوليڤر. ولمن لا يعرف جيمي فإنه من أشهر الطباخين في بريطانيا وأحد أعمدة برامج الطبخ التلفزيونية على مدى عقدين من الزمن.
يحاول جيمي أوليڤر في كتابه الجديد أن يقدم وصفات لأطباق من الخضر والنباتات.
لم يغلق فرع WhSmith لفائدة صالون تجميل وتدليك، لكنه يستقبلك بما يحيل على البطن والحواس.
لا يلام المرء على تكيفه مع متطلبات الوقت لكي يستمر في العيش. فبالتأكيد شعرت دور النشر بأن استمرار عملها يتطلب مسايرة زيادة اهتمامات الناس وإقبالهم على استهلاك الخضر والفواكه والاطباق المصنوعة من الاعشاب.
أليس الوزن الزائد هو الذي أضعف قدرة الحركة لدى ذلك الرجل الذي خاطبته قبل قليل سيدة عجوز من أصول هندية؟. إن جسدها لا زال رشيقا رغم أنه يبدو أنها تفوقه في السن أعواما عددا. ربما يرجع ذلك إلى عقيدتها الهندوسية التي تمنع عليها أكل لحم البقر.
واصلت السير في مكتبة WhSmith باحثا عن عناوين قد تفيدني، لكن لم تقدني رجلاي سوى إلى ركن تحت عنوان (الطباخون المشاهير).
يا إلهي، ألم يعد في الدنيا ما يغري الناس بالقراءة عدا الأكل؟. طبعا هذا ليس صحيحا، فمواضيع الكتب المعروضة متنوعة، لكن لم يسبق لي أن رأيت الكتب المتعلقة بالطبخ وتقوية العضلات تحتل هذا المكان الاستراتيجي في المكتبة.
هل هو تحول من الاهتمام بالقضايا الفلسفية والوجودية، إلى الانكفاء على الجسم والافتتان بشكله ومتطلباته؟.
في مطلع الألفية الثانية شاهدت برنامجا قدمته القناة الأولى المغربية، وكان موضوعه ساحة (جامع الفنا) الشهيرة في مراكش. ومن بين ضيوف ذلك البرنامج كان الممثل والمؤلف المسرحي المغربي الكبير محمد حسن الجندي. تحدث الجندي بمرارة عن تلك الساحة التي كان يرتادها وهو صغير، ومن خلال حضوره حلقات الفرجة التي كانت تعقد فيها، تعلم مبادئ التمثيل البسيطة ونمت لديه ملكة السرد، ليصبح في غضون سنوات ممثلا أساسيا في فيلم (الرسالة) لمصطفى العقاد، ويؤلف سلسلة (الأزلية) الاذاعية التي كانت شوارع مدن المغرب وأريافه تصبح خاوية لحظة بث حلقاتها على أثير الإذاعة المغربية.
في البرنامج التلفزيوني عن ساحة جامع الفنا قال محمد حسن الجندي متحسرا:"للأسف بعدما كانت هذه الساحة تقدم غذاء للعقل والروح، أصبحت أكبر مكان في الهواء الطلق لتقديم غذاء البطون".
لا أدري هل ينسحب الأمر ذاته على المكتبات التي أصبحت محلات للتجميل والتدليك، والكتب التي باتت مقررات تقدم لنا وصفات تعدنا بضمان الرشاقة والخفة وتساعدنا على التخسيس؟. لعلنا نصبح جميعا راقصين رقص المجانين. أليس هذا هو الزمن الذي يلاحق عشرات الملايين أشخاصا يستقون شهرتهم وتأثيرهم من حركات أجسامهم أو بلاهة عقولهم؟.
على العموم في المنطقة التي أنحدر منها ، وتسمى عالما عربيا، لم يكن قي حياتنا الكثير من المكتبات التي يمكن التحسر عليها، فنحن لم نكن أبدا أمة تقرأ.
رحم الله محمد حسن الجندي الذي غادرنا قبل عامين ونصف.
(الصور لكتاب جيمي أوليڤر الجديد وقسم الطباخين المشاهير في المكتبة، وساحة جامع الفنا ليلا إضافة إلى صورة للراحل محمد حسن الجندي أثناء تصوير أحد الأفلام، دون إغفال فنجان القهوة الذي أضفت له اليوم استثناء قطعة حلوى)