وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
في أحد أيام شتاء عام 1984 نشب جدال شديد بين أحد زملائي في الاعدادية وأستاذ اللغة العربية. كنا في عز بدايات سن المراهقة، وكان أحدنا يظن نفسه متبحرا في اللغة العربية. سألنا الأستاذ عن معنى "دوَلٌ" في البيت التالي للشاعر أبي البقاء الرندي الأندلسي:
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان.
وقف صاحبي وكان طويل القامة نحيف البنية، وقد تدلت من أسفل ذقنه زغيبات تؤذن بقرب دخوله مرحلة الرجولة، ثم قال: دول معناها يا أستاذ مجموع دولة. وهذا أمر واضح حتى للأميين.
وجه إليه الأستاذ نظرة استخفاف، وقال له هذه العبارة التي لا زالت ذاكرتي تحتفظ بها: لا يا سيبويه!. دولٌ معناها متداولة، أي ينتقل فيها الأمر من فئة إلى أخرى.
حضرتني هذه الحادثة وأنا أجلس في مقعدي المفضل بمقهاي المفضل. ألتقط كالعادة صورة للفنجان وابن عمه كوب الماء. لقد تغير المشهد. الكل يتداول على المقعد. لم يعد الشيخ الثمانيني هناك. ربما لن أراه أبدا. مكانه يجلس ثلاثة أشخاص. ما هو ثابت في ذلك الحيز هي اللوحة التي يظهر فيها كف أنثى تضع خاتما مرصعا بالألماس في وُسطاها (الأصبع الأوسط)، والمقاعد الخشبية الأربعة حول الطاولة.
يلفت انتباهي لون ذراع الشاب الجالس مكان شيخنا. يا إلهي، إنها ذراع اصطناعية. يحركها الشاب قليلا. ثم يرفع بيده اليسرى كوب قهوة (أميريكانو)، يأخذ رشفة خفيفة ويعيده إلى مكانه. يضع كف يسراه تحت فكه السفلي لإسناده. يرتفع قليلا صوت موسيقى الجاز، أكاد أعرف ملامح المغني الذي أتصوره جالسا أمام البيانو.
تتقد ذاكرتي بسرعة. أستعيد اسم علي عباس. ذلك الفتى العراقي كان يبلغ من العمر 14 عاما حين التقيته في بيت أحد أقاربه بلندن. حاولت مداعبته فضغط بذراعه الاصطناعية علي كفي بقوة كادت تكسر العظام.
كان علي نائما في بيت عائلته ربيع عام 2003 حين سقط صاروخ أمريكي عليهم في إحدى الضواحي الزراعية جنوبي بغداد. أفاق الطفل على صراخ والديه واخته. كانت النيران تلتهم كل شيء، وبعد وهلة صمت أبواه... لم يسمع صوتهما منذتلك اللحظة. وصل الجيران إلى البيت المقصوف، وحاول أحدهم انتشال علي من ذراعه... لكنه حين سحبه، تبعته الذراع، وبقي باقي الجسد بين الركام. لقد كانت الذراع متفحمة، تماما مثلما تفحمت الأخرى، واحترق جل جسده.
وجدت علي ضاحكا مشاغبا في بيت خاله بلندن، أسابيع قليلة بعد استقدامه للعلاج في بريطانيا عقب حملة إعلامية وانسانية قام بها عدد من النشطاء لتوفير العلاج له. كان الأطباء قد صنعوا له ذراعين آليتين. وقد زرته رفقة فريق من التلفزيون الكندي توليت ترجمة أقواله إليهم. كان الفريق يحاول قدر المستطاع إقناع خال علي بنقله إلى كندا قصد العلاج.
أرفع عيني عن شاشة الهاتف، لا زال الشاب جالسا في مكانه. إنه يمرر كفه اليسرى فوق مِرفق الذراع الاصطناعية. هل هو ضحية إحدى الحروب؟. ممكن!. ربما في أفغانستان. فثمة جنود بريطانيون لا زالوا يقاتلون طالبان وأشباههم هناك منذ الحرب التي أعلنها جورج بوش الابن عام 2001 بُعيد هجمات 11 سبتمبر.
جورج بوش لا زال يظهر بين الفينة والأخرى في وسائل الاعلام. كنت أشاهد صباح اليوم تقريرا على شبكة (سي ان ان) عن مراسم نقل جثمان جون ماكين من واشنطن إلى أناپوليس في ولاية ميريلاند.
كانت عينا بوش دامعتين وهو يتحدث داخل الكاتدرائية الوطنية بواشنطن، عن منافسه السابق في الانتخابات الأولية داخل الحزب الجمهوري الذي ينتميان إليه. خطر في ذهني سؤال إن كان بوش يتذكر أيضا مئات الآلاف من الضحايا الذين سقطوا في العراق جراء قراره غزو ذلك البلد المنكوب. لقد مضى 15 عاما على ذلك. ولا زالت الأرواح تتساقط في العراق، وأضيفت إليه أرواح مئات الآلاف في سورية. لم يعد بوش في ذلك العنفوان والعنجهبة. رأيت علامات الشيخوخة تغزو كامل وجهه ورأسه. بجانبه جلس الرئيس باراك أوباما وقربهما كان بيل كلنتون. مقابل ذلك فضل الرئيس الحالي دونالد ترامب أن يذهب إلى أحد ملاعب الغولف لممارسة هوايته!!! هي الأمور إذن دول!!! رحم الله ذلك الأستاذ الذي شرح لنا معنى دول في بيت أبي البقاء الرندي الأندلسي.
يمر أمامي رجل وامرأة، ثم يجلسان عن يساري بجانب سيدة سمعتها قبل قليل تتحدث باللغة الكردية.
مقهاي ليس كباقي المقاهي. إنه ملجأ الغرباء والشيوخ والطلاب وكل من يبتغي لحظة وئام مع النفس.
لحظة. ألا يمكن أن تكون الشابة الكردية وضيفاها ممن هجرتهم تداعيات الغزو الذي أطلقه جورج بوش ضد صدام حسين؟. كل شيء وارد في هذا العالم الذي يشبه كثيرا ما حدث إبان الحرب العالمية الثانية، وما تلاها من سنوات.
لا زلت أتذكر رد بوش ذات يوم عن سؤال صحفي عما إذا كان التاريخ سيحاسبه على قرار غزو العراق. إذ قال ما معناه: لا أدري بماذا سيحاسبني التاريخ، لأننا حينها سنكون قد رحلنا جميعا!.
في مقعد الشيخ الثمانيني يقف الشاب ذو الذراع الاصطناعية. يضع حقيبة على ظهره ويحمل أخرى بيده اليسرى. ينتظر عودة رفيقته من مرحاض المقهى، ثم يغادر الثلاثة.
أنتبه إلى ضجيج شاب يتحدث مع صديقته بلهجة آيرلندية.
أرفع الفنجان وأرتشف ما بقي فيه. لقد أضحت القهوة باردة...
(في الصور المرفقة يظهر علي عباس عقب اصابته عام 2003 وأخرى حديثة له وهو الآن ابن 27 عاما)