وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
الطقس حار جدا. وتزيد من حدة حرارته الرطوبة العالية وأنفاس الجماهير المحتشدة. لم أكن متعودا على هذا العدد من الناس. بدأت أتدافع معهم. يضغط أحدهم بذراعه القوية على كتفي. جسمي النحيل لا يحتمل فأميل قليلا ثم استعيد وقفتي. طول قامتي مقارنة بمن حولي يعينني على رؤية الرجلين. كان مرورهما خاطفا على متن سيارة مكشوفة. هذه هي المرة الأولى التي أراه مباشرة. يبتسم ابتسامة عريضة ثم يرفع عينيه نحو البناية التي أقف تحتها. لا أشعر بنفسي إلا وأنا أصرخ بأعلى صوتي "فلتسقط الجبهة الوطنية، ليسقط جون ماري لوپان، A bas le Front National, a bas jean maroe le Pen ).
لا أظن أن جاك شيراك سمعني وسط الصراخ الهادر لمستقبليه على ناصية شارع محمد الخامس يوم 19 يوليو عام 1995. كان الرجل الذي انتخب حديثا رئيسا للجمهورية الفرنسية، يبدو سعيدا للغاية. بجانبه الملك الحسن الثاني يبدو منتشيا.
كان الرئيس الفرنسي يقوم بزيارة رسمية للمغرب في بداية جولة إفريقية، وكنت حينها على بعد بضعة أشهر من الانتقال للعمل والعيش في الرباط. قادما من شرق المغرب، أحمل أحلاما عريضة، وحماسا سيخضعه الواقع والتجارب لشيء من الترويض الضروري.
يمضي عام ونصف العام على ذلك اليوم. أسمع طرقا خفيفا على الباب. أقوم من سريري متثائبا، أفتحه بهدوء. أمامي يقف عمي لَحْسَنْ. أقبِّل جبهته كما أفعل مع والدي وكل من هم في سن متقدمة، ثم أدعوه للدخول.
أرمق دمعة تنزل من عينه اليسرى. إنه رجل كان شابا يفيض حيوية لما اندلعت الحرب العالمية.
يقترب مني وسط عتمة الشقة البسيطة التي استأجرتها منه قبل شهرين. يقول عمي لحسن:"ولدي العزيز تعلم أني أصبحت شيخا عجوزا، والراتب التقاعدي الذي أتقاضاه من الفرنسيين والحيش المغربي قليل جدا. لولا ما أحصله منك ومن العسكري الذي يسكن في الطابق السفلي لما استطعت تحمل تكاليف التطبيب والأكل".
في تلك اللحظة يطرق الباب من جديد. من خلفه أسمع صوت فاطْمة، زوجة عمي لحسن. أهرع لفتح الباب لها.
يخرج عمي لحسن من تحت جلبابه كناشا قديما. إنه وثيقة تفيد بأنه خدم في الجيش الفرنسي إبان حرب تحرير فرنسا من الغزو الألماني النازي.
الآن يا ولدي السي عبدالرحيم -يسترسل عمي لحسن- جئت لأطلب منك أن تتواصل لي مع السفارة الفرنسية لعلهم يعيدون لي شيئا من حقوقي بصفتي محاربا قديما في صفوف الجيش الموالي لشارل ديغول. لقد سمعت من رفاق لي أن فرنسا تمنح امتيازات وتسعيلات في التأشيرات لمن هم في مثل وضعيتي.
تأملت الكتيِِّب الصغير، وصورة عمي لحسن الشاب. لقد أصبحت باهتة، لكن اسمه ورقمه التسلسلي العسكري واضحان.
لما عدت إلى عملي في مقر وكالة المغرب العربي للأنباء، بحثت عن عنوان السفارة الفرنسية، ثم صورت نسخا لكناش عمي لحسن ووثائق أخرى، وكتبت رسالة موجهة باسم سفير الجمهورية الفرنسية في الرباط.
بعد شهرين أغادر شقة عمي لحسن استأجرتها، حينما تبين لي أن ذلك الحي لم يكن آمنا أثناء عودتي من فترة الدوام الليلي بعد منتصف الليل.
سيجرني الحنين بعد فترة إلى زيارة عمي لحسن في بيته، تخرج زوجته فاطمة لاستقبالي. يفرج وجهها المنتفخ عن ابتسامة عريضة. لم أكن أرتاح لهذه السيدة. فقد كانت متسلطة وتمارس جبروتها على زوجها الذي يكبرها بثلاثين عاما أو يزيد. حتى سومة الإيجار كانت تتتزعها منه أمامي لما أسلمها لها.
قالت فاطمة:"عمك لحسن موجود حاليا في فرنسا لعلاج عينه التي كانت تدمع. لقد ردت عليه سفارة فرنسا، وقبلت وثائقه، وقريبا وعدونا بتقديم تعويضات له عن السنين التي خدم خلالها في الجيش الفرنسي".
فرحت كثيرا لهذا النبأ، وودعت فاطمة واعدا إياها بزيارتها وزوجها قريبا.
في عام 2008 أشاهد لأول مرة فيلم "أهالي، نصر بلا مجد Indigenes, Victoire sans Gloire) لمخرجه الفرنسي ، ذي الأصول الجزائرية، رشيد بوشارب، وبطولة الكوميدي المغربي الأصل، جمال الدبُّوز.
يتحدث الفيلم عن مشاركة مجموعة من العسكريين الذين جندتهم فرنسا من المغرب والجزائر وتونس للقتال في صفوف جيشها.
يعاني المقاتلون المغاربيون من التمييز في المأكل والملبس والمعاملة داخل الجيش الفرنسي، لكنهم أثناء القتال يتفوقون على نظرائهم الفرنسيين. يظهرون استبسالا في مواجهة الجنود النازيين. يحررون عددا من البلدات الفرنسية، وفي الأخير يسقط غالبيتهم في ميدان الوغى. ولا يبقى من ذكراهم سوى قبور في ديار غريبة عن بلدانهم. أحد رفاقهم ينجو من الموت، فيمضي بقية حياته يجتر ذكريات شظايا القنابل والرصاص المتطاير وأشلاء من جيء بهم من قراهم المغاربية للدفاع عن فرنسا.
في سبتمبر عام 1943 تستعيد الجمهورية الفرنسية كامل سيادتها على الأراضي التي سلبها إياها أدولف هتلر ، وتخوض أقطار المغرب الكبير حروب تحرير متفاوتة في شدتها، إلى أن استعادت استقلالها جميعا. وفي عام 1959 تقرر الحكومة الفرنسية تجميد معاشات المغاربيين والسنغاليين والماليين والتشاديين الذي حاربوا في صفوفها. فتصير بضعة فرنكات لا تسمن ولا تغني من جوع.
في خريف عام 2006 ستشاهد برناديت، زوجة الرئيس جاك شيراك فيلم رشيد بوشارب، وما إن انتهى العرض حتى كانت تحت تأثير ما رأته. تحدثت مع زوجها بضرورة فعل شيء ما لفائدة نحو 55 ألف محارب قديم من المستعمرات السابقة، أربعون ألفا منهم مغاربيون، وقد تجاوزوا حينذاك الخامسة والستين من العمر.
لا تكاد تمضي شهور قليلة حتى تشرع الحكومة الفرنسية في صرف معاشات محترمة لأولئك المجندين. وتعيد لهم حقا جمدته حكومة فرنسية كانت في عز الحرب مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية.
أعاد شيراك ذلك الحق، ثم غادر قصر الإيليزيه إلى غير رجعة، تاركا المكان لنيكولا ساركوزي المعروف بعلاقته المتوترة مع الفرنسيين من أصول مغاربية.
قبل بضعة أيام رحل شيراك عن هذه الدنيا، وقد أمضى معظم ما بقي من حياته في تارودانت المغربية.
قبل حوالي 15 عاما عدت إلى المنزل الذي كان يقيم فيه عمي لحسن في الرباط، فأخبرني بعض الجيران أنه باعه وانتقل للعيش في حي أفضل حالا ومقاما. لا أعرف ما الذي حل به بعدذلك، فإن كان حيا أدعو له بالصحة والعافية، وإن مات فأسأل الله أن يرحمه ويرحم جاك شيراك.
(الصور: مجندون مغاربة في حرب تحرير ايطاليا وفرنسا. ملصق فيلم أهالي. وجاك شيراك والحسن الثاني بعدما ترجلا من سيارتهما المكشوفة أمام مجلس النواب المغربي يوم 19 يوليو 1995)