وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
شعر طوماسو ببعض الإعياء والعطش، فطلب مني أن نتوجه إلى دكان قريب لاقتناء ماء بارد. بعدها طلب أن نجلس في مقهى مجاور، فقلت له إنه يجب طلب مشروب مقابل الجلوس. هكذا تقتضي "الأعراف التجارية". تفهّم الأمر هذه المرة، فقال لمَ لا، أنا مستعد لطلب كأس اسبريسو.
طوماسو مصور ايطالي يعمل معي في القناة. لم نفترق يوما واحدا منذ تقابلنا في المغرب في اطار مهمة صحفية قبل أسبوع.
أثناء التصوير في عدد من المدن المغربية واجهتنا مشاكل عدة، بعضها من النوع اليومي، وأخرى نابعة من جهله بالعادات والقيم للمجتمع المغربي.
وضعنا الكاميرا على الطاولة، فتقدم النادل وقد ارتسمت على محياه ابتسامة عريضة. خلفه وقف شابان يبدو أنهما صينيان، كانا ينظران في شاشة آلة تصوير يحملها أحدهما. لعلهما كانا يتحققان من جمالية صور التقطاها. طلبت من النادل فنجان قهوة (اكسبريس)، فحرك طوماسو رأسه مؤكدا أنه يريد المشروب ذاته.
لقد بدأت لحيته تطول قليلا. أحيانا يكاد الناس لا يميزونه عن المغاربة. لكنه يصر على أن الإيطاليين مميزون عن غيرهم.
مساء أمس كنا نتجه صعودا من وسط البلدة العتيقة في فاس، عائديْن إلى (باب بوجلود)، فسمعنا ايقاعات موسيقى ودفوفٍ بين الأزقة الضيقة المظلمة. أومأت إلى طوماسو بأن يستعد بسرعة للتصوير. بدأ يركض وسط حشد كثيف من السياح والمتسوقين المغاربة. كلما اقتربنا من العازفين، أصبحت الحركة أكثر صعوبة. كان دوي ايقاعات الدفوف يرتفع حتى كاد يثقب طبلتي الأذنين. رفع طوماسو الكاميرا وبدأ يصور من فوق رؤوس القوم. جل المارة كانوا يتدافعون حاملين هواتفهم النقالة لتصوير هذه اللحظة العجيبة.
فجأة تسلل طوماسو وسط العازفين واندمج في التصوير كأنه مستأجر من أصحاب العرس. لقد كنا نرافق ما يسمى بموكب "الهدية". وهي مجموعة من المقتنيات والهدايا التي يبعثها العريس لأهل العروس، وتتضمن أثوابا فاخرة وأحذية وحلويات ومكونات أخرى من لوازم حفل الزفاف.
شعرت بألم بعد أن وكزني أحد الأشخاص. التفت إليه، فإذا به شاب سمين انخرط في "جذبة" رقص. كانت والدته ترافقه وهي تحاول حمايته من السقوط، لأنه من دوي "متلازمة داون".
يقترب النادل حاملا فنجاني قهوة، وقنينة ماء غير معدني.
آخذ رشفة من القهوة. أرخي السمع لعلي أسمع تعليقا من طوماسو على القهوة. فهو دائم الانتقاد، ويصر على أن إسبريسو ايطاليا يبقى الأفضل في العالم. أحيانا يصعب علي مجاراته.
أمس كنت قلقا من أن تحدث لنا مشاكل أثناء تصوير موكب "الهدية". شققت طريقي نحوه بصعوبة، ثم أمسكته من ذراعه، وطلبت منه أن لا يمضي نحو مقدمة الموكب حيث النساء والفتيات يرقصن ويغنين، مرتديات أجمل ما لديهن من ملابس تقليدية وحليٍّ ذهبية. انفلت طوماسو من يدي، سلمني (الترايپود) دون أن يلتفت إليَّ، ثم مضى مهرولا وبيده كاميرا التصوير. "يا إلهي، هذا الشاب سيسبب لنا مشاكل!"، قلت في نفسي وقد اشرأب عنقي باحثا عنه من بعيد.
ليست هذه المرة الأولى التي تحدث لنا مشاكل أثناء التصوير. في سبتمبر عام 2015 كنت وإياه في كرواتيا نغطي موجة نزوح طالبي اللجوء السوريين والعراقيين والافغان. رأى طوماسو آنذاك عناصر أمن كرواتيين بأحد المنافذ البرية مع النمسا. فتوجه لتصويره عن قرب، ولم نشعر إلا وقد انطلق صوت كالرعد. لقد كان قائد تلك المنطقة وقد تلبسته نوبة جنون بعد أن شرعنا في تصوير ما كان يود أن لا يراه العالم. كنا مع مئات من اللاجئين الذي بدأ البعض منهم يتسللون عبر السياج، فأطلق أوامر لجنوده بأن يضربوا كل من ضبط متسللا أو يحاول التسلل.
يقطع طوماسو علي حبل الكتابة والاستحضار. يقول لي إن مورينيو مدرب مانتشيستر يونايتد الانجليزي إنسان فاشل. يرفع عينيه نحو شاشة التلفزيون الكبرى التي وضعها صاحب المقهى خارج محله المطل على منطقة "الرّْصيف" في فاس العتيقة. يتنقل طمومتسو بين شاشة هاتفه المحمول وشاشة التلفزيون حيث تجرى مباراة بين فريقي رين وباريس سان جرمان الفرنسيَيْن.
مرة أخرى يندمج طوماسو بسرعة في أجواء المقهى. يشرع في الحديث مع أحد الزبائن. لحسن الحظ جل الناس هنا ودودون. لكن الوضع كان أمس مختلفا. فبعد أن شرع في تصوير السيدات وهن يرقصن في مقدمة موكب "الهدية"، تقدم نحوه شاب والشرر يتطاير من عينيه. رأيتهما من بعيد. كان الجو متوترا وطوماسو يحاول أن يشرح له أنه لا يقوم بأي شيء مخالف للقانون.
نعم يا عزيزي إنك لح تخالق القاهون، لكن موكب العرس في الطريق يعنبر لدى أصحابه امتدادا للعوس داخل البيت. نحن في منطقة محافظة.
ثم وضع طوماسو الكاميرا تحت ابطه وانطلق عائدا نحوي، تاركا الشاب الغيور على نسوته يسب ويلعن، لكنه لم يكن قادرا على فعل شيء. تركنا الموكب يختفي في الأزقة، وابتعدنا تاركين الايقاعات تخفت رويدا رويدا، فاسحة المجال لصوت المؤذنين وهم يعلنون حلولوموعد صلاة المغرب.
أرفع الفنجان لأشرب منه، فإذا به فارغ. فعلا لست أدري متى شربته...