يستنكر صديقي في مكالمة هاتفية استمرار الحر إلى يومنا هذا ونحن نتخطى الأسبوع الأول من أكتوبر، ملقيا باللوم كاملا على "التغيرات المناخية". لا أدري بمَ أجيبه، سيما وأننا عشنا أيام حر ربما تفوق هذه في الدرجات أثناء طفولتنا البعيدة نسبيا في سبعينيات القرن الماضي. قد يكون تواتر تحذيرات بعض العلماء والسياسيين هو السبب في "إرباك" قدرتنا على تحمل غزو الصيف لأيام الخريف، في "اعتداء" يراه الكثير من الناس منكرا لا يمكن الصمت عليه.
يقترب النادل حاملا فنجان قهوتي المفضل، وكأس ماء كبيرا. لعله يعرف أنني أريد أن أشفي غليلي منه. أطلب منه أن يمرر منشفته على الطاولة التي علاها شيء من الغبار، وكثير من حبيبات دخان السيارات التي لا تتوقف عن المرور بجانب هذا المقهى. "
ينحني على الطاولة وينظر إلي مبتسما. إنه لا يزال في عز الشباب، لكن الشيب بدأ يغزو شاربه الخفيف، ولحيته التي لم يحلقها منذ بضعة أيام. ينصرف نحو زبائن آخرين والخفة لا تفارقه. إنه صورة معكوسة للكثير من شباب اليوم. قبل أيام نزلت في أحد الفنادق الفخمة، فوجدت فيه كل شيء جيدا. التجهيزات من أحدث طراز. الغرف واسعة. المطعم رائع. وقبل أن أقرر الحجز فيه مع زميلي المصور طوماسو، قمت بجولة سريعة على تعليقات زبائن سبق لهم أن مروا بالفندق ذاته، فوجدت غالبيتها تمتدح الفندق، وتسلط سيلا من الانتقادات على الموظفين، بعضها جارح، وآخر شعرت بأن فيه شيئا من التحامل. جل أفراد الطاقم البشري في الفندق من الشباب. لكن تصرفات الكثير منهم لا تميز بين مكان العمل والسلوكات التي يمكن أن نقوم بها في حياتنا الخاصة. حديث جانبي بين العمال وقهقهة تعلو أثناء فترة الفطور ، بينما الزبائن ينتظرون. يطلب طوماسو فنجان قهوة فيحمله له النادل، لكنه ينسى الملعقة. موظف الاستقبال ينظر إلي باستخفاف حين أطلب منه مفتاح الغرفة بعد انتظار استمر قرابة ساعتين، ضيع علي خلالهما الكثير من العمل.
وبعد الحصول على المفاتيح نتتظر من المكلف بحمل الحقائب أن يأتينا بها إلى الغرفتين، فإذا بموظفي الاستقبال يخبروننا بأن الأمر اختلط عليهم فشحنوها على متن سيارة أجرة يقصد اصحابها المطار.
لا شيء ينقص شباب اليوم. لكن شيئا ما مفقود لدى الكثير منهم. قد نجد تلك الحلقة في التكوين. قد نجده كا في التربية على حب العمل والتفاني فيه. قد نجدها في امور اخرى لا اعلمها.
صباح الأحد، وهو يوم عطلة، قصدت المصبنة القريبة من بيتي لاستلام ملابسي. بعد السلام سألت صاحبها عن الاهل والاحباب. انه شاب قدم قبل عشرة أعوام من قرية أمازيغية قرب مراكش، وبدأ العمل مع أحد أقاربه في الرباط. تمضي السنون، وما من مرت زرته إلا وأجده منهمكا في عمله، مسارعا الى خدمة الزبائن، ساعيا لارضائهم. لقد اصبح الآن مالك محل الصبانة، ولديه عامل معه. سألته إن لم يكن يفكر في فتح فرع آخر له، فأفرج عن ابتسامة ممزوجة بالمرارة، وقال: أين لي بالعمال. لا يوجد من هو أهل للثقة.
كان يتحدث وكفَّاه لا تكفان عن إدخال قميصين لي في كيس بلاستيكي بعناية شديدة. ذكرني أسلوبه بطريقة عمال مصانع الملابس الاحترافية.
واصل كلامه: أبناء اليوم لا يريدون العمل. لقد سبق لي ان استأجرت عددا منهم، لكن غالبيتهم لا يمضون أكثر من أسبوع.
التفتَ نحو ابن عمه الذي كان منهمكا في تدقيق أطراف قميص بين يديه، وقد ضاع وسط البخار المنبعث من المكواة الضخمة، ثم قال عنه: هذا هو الوحيد الذي يصبر معي على التعب. الآخرون يريدون المجيء الى العمل في العاشرة صباحا ثم العودة الى منازلهم لتناول طعام الغذاء في منتصف النهار، وبعدها أخذ قيلولة، ثم بعد العصر يأتوك وهم يتعجلون غروب الشمس للذهاب عند أصدقائهم.
لا أريد أن أقسو على شبان هذا الزمن، فنحن مررنا من المرحلة ذاتها. لكنني أشعر بأن ظروفنا كانت أكثر صعوبة في كل شيء. فالكتاب الذي يمكن تحميله مجانا من الانترنت، كنا ننتظر شهورا وفي بعض الأحيان سنوات للحصول عليه. لقد كان حلمي أن أقرأ كتاب (الأمير) وأنا في سن المراهقة، بيد أن ذلك لم يتيسر إلا وأنا في الجامعة. أحيانا كنت أنتظر فرصة السفر من شرق المغرب إلى العاصمة الرباط لأزور مكتبة شعبية أجمع منها من الكتب ما تسمح به ميزانتي المحدودة. وأحيانا كنا ننتظر في "طابور طويل" الى أن يصل دورنا لقراءة نسخة من رواية (العجوز) أو (لمن يُقرع الجرس) لارنست هيمينغواي، أو نضطر لنسخ بعضها بطريقة مشوهة.
جرى حديث بيني وبين أحد الصحفيين الشباب من بلد مغاربي، فسألته عن سياسيين من بلده، وعن أحداث شهدها ذلك البلد منذ الاستقلال، فلم يجد بما يجيبني. سألته بالفرنسية فلم يستطع أن يتبين الكثير من مفرداتها.
في الآونة الأخيرة بدأت أرى كلمات عن العربية غريبة، ك"تمامن، وفرصتاً، لا حولة ولا قوة إلا بالله، ونسبتاً إلى ..." إلخ. هذه نماذج قرأتها لأشخاص من بلدان مختلفة، وكل ما يجمعهم هو أنهم من فئة الشباب.
ثمة خلل ما عميق في مجتمعاتنا. في منظوماتنا التعليمية والتربوية. أعيش مع البريطانيين منذ عقدين من الزمن، وأدركت منذ البداية أن نجاحهم ليس في ذكائهم الفردي، فنحن لا نقل عنهم مستوى في الذكاء. نجاحهم يكمن في عدة نقط برأيي: الاقصاء التام للحياة الخاصة اثناء فترة العمل، والتجرد المطلق اثناء أداء مهامهم. الايمان بوجود قوة خفية تسمى سلطة القانون الذي له سيف مسلط على رقاب الجميع... أقول الجميع، وفيه ضمانة لحقوق الجميع. الإيمان بأن المجتمع والدولة مكسب مشترك يستحق التضحية إن اقتضى الأمر، لكي يتكرس ويتقوى، مع ما يمنحه ذلك من قدر معقول من الاطمئنان على المستقبل.
وفي الأخير: قد يكون ذكاؤهم الفردي يشبه ذكاءنا، لكن قوتهم الضاربة تكمن في ذكائهم الجماعي... ولأجل ذلك فليعمل العاملون.
لقد بردت قهوتي...