وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
تطلعت إلى النادل وهو يسألني ماذا أريد أن أشرب. شعرت بأن عقارب الساعة قد عادت إلى الوراء، أو لربما تجمدت في مكانها، فعلاها شيء من عوادي الزمن. لقد علا الشيب شارب النادل. تعود آخر مرة رأيته فيها إلى بدايات صيف عام 1979. كنت حينها طفلا يافعا. وكان هو من مراهقي منطقتنا. سينتقل أهلي للعيش في مدينة أخرى، وسأحتفظ بتقاسيم الكثير من الوجوه في تجاويف ذاكرتي. وكلما عدت إلى أولى مرابع الصبا، سأجد وجوها من ذلك الزمن البريء. كنا آنذاك نحلم بأشياء لا يتجاوز مداها الجغرافي بضعة كيلومترات. كانت تلك المسافة كافية لتقدم صورة مشحونة بأحداث من الماضي. الموت والحرب والاستعمار والفقر والجهل. تقابلها جدران من طين وطوب، وأطياف أمراء وسلاطين وطالبي حكم وأفاقين.
أشيح بانتباهي عن هذه الصور، فأنظر إلى النادل الذي تحمل عيناه أسئلة عمن أكون. أطلب منه فنجان اسبريسو، ويطلب صديقي الباحث في التاريخ، امحمد العلوي الباهي، قهوة بالحليب. ينصرف النادل تاركا خلفه طيف جسد نحيف توقفت به الأقدار في ذلك المكان الذي يعمل فيه. لقد رحل رجالات ذلك الزمن، وجاء بعدهم جيلان تقريبا من "أهل الوقت". ها أنذا جالس هنا بعد أربعين عاما. أتذكر حين قعدت ذات يوم على أحد كراسي هذا المقهى، طاردني نادل ذلك الزمن مطلقا سيلا من الشتائم. حتى ملمع الأحذية ذو الرِّجل العرجاء قرر تقديم المدد للنادل، فأطلق لسانه بشتائم لا قِبل لي بها. لم يطلب منه أحد أن يتطوع بذلك العمل، لكنه بالتأكيد كان يريد التودد أكثر لصاحب المقهى وعماله، لعلهم لا يضايقونه حين يضع طبلته هناك ويشرع في قرعها بالفرشاة الخشبية.
يعود النادل مبتسما، ثم يضع الفنجان وكأس القهوة بالحليب.
أسرح بعيني في ساحة أَحَرّاشْ التاريخية بمدينة تازة، في شمال شرقي المغرب. أطياف من مضوا تطاردني. هنا درست في مدرسة مولاي الحسن الابتدائية. هنا كنت أركض غير عابئ بالسيارات والحافلات الزرقاء المكتظة بالركاب القادمين من (تازة السفلى). في أبوابها سأشاهد لأول مرة كيف كان شاب ذميم الوجه يدس ذراعه وسط المتدافعين ثم يسحبها وقد شد بكفه على أوراق مالية أو حافظة نقود. كان الله في عون من تسللت أصابع ذلك اللص إلى جيوب سرواله أو قميصه. ينسحب ذميم الوجه نحو كرسي من الإسمنت، ويشرع في عد ما سرقه، ثم يشعل سيجارة من نوع (كازا سپور) الردئ. ينفث الدخان من فتحتي أنفه الأفطس، ثم يعود للعد، وبعدها يلحق به أخوه. يا لهما من وجهين قبيحين. ذات مرة لاحظ أنني أراقبه فنظر إلي شزرا، ودفع شفته العليا بأصبعٍ ظفرُه طويلٌ ومتسخٌ. لقد كان يخفي تحت شفته الغليظة نصف شفرة حلاقة من نوع (مينورا). لقد كان يستخدمها في تمزيق ملابس أو جيوب المتدافعين لركوب الحافلة. لكنه هذه المرة كان يهددني بقطع حنجرتي بالشفرة. ابتعدت عنه وأنا أصرخ: احذروا هذا شفّار، شفّار (أي لص، لص). لا أدري ما الذي حدث بعد ذلك.
بل لا أدري حتى متى اختفت تلك الحافلات الزرقاء، وبالتأكيد لقد اختفى ذميم الوجه إما وراء القضبان، أو قُتِل، أو هداه الله فكف عن النشل، وهذا أمر أستبعده.
يعيدني صديقي إلى اللحظة الراهنة. هذه الريح تشي بأن المطر سيهطل اليوم، يقول السي امحمد. أقول له تكفينا ثلاثون ثانية للعودة إلى داخل المقهى.
تعرفت على هذا الرجل الطيب قبل أكثر من عقدين في مدينة أصيلة شمال غربي المغرب. كنت أغطي فقرات موسم المدينة الثقافي، وكان هو يحضر ذلك الموسم انطلاقا من شغفه بالتاريخ والثقافة عموما. ومنذئذ توثقت عرى الصداقة بيننا وتقوت بفضل اهتمامنا المشترك بالتاريخ.
كلما وقفت في ساحة أحراش، أجدني مشدودا إلى الماضي. بعد أن غادرنا المقهى، تجول بي السي امحمد في دروب تازة العتيقة، مستفيضا في تقديم نبذ عن البنايات والدروب والزوايا الصوفية. هو يشرح، وأنا أستعيد ذكرياتي مع تلك الأماكن. كان يبحث في دهاليز ذاكرته المتقدة، عن ذكريات طفولته، وأنا أبحث عن صور من طفولتي المتبخرة.
فجأة توقفنا أمام رجل رأيته أول مرة لما كان عمري لا يتجاوز خمسة أعوام، وها قد مضى 43 عاما وهو لا يزال جالسا في مكانه بدكانه، مرتديا جلبابه الوقور وطربوشه المغربي الوطني. كأن الزمن توقف عنده. يشير علي السي امحمد بأنه ذو ذاكرة تاريخية قوية. ينطلق الحديث، فنعود إلى خمسينيات القرن الماضي، يتحدث عن عميد شرطة فرنسي تزوج مواطنة مغربية وأسلم. تقرر حكومته إرساله إلى موريتانيا للاشراف على تدريب عناصر الشرطة في ذلك البلد الذي سيستقل بعد بضعة أعوام. يتوجه العميد إلى الطائرة القاصدة موريتانيا، فيجد مسؤولا فرنسيا يرغب في السفر وليس له مقعد، فيتنازل له. تقلع الطائرة، وأثناء الرحلة تسقط، فيموت كل من فيها. يقول الشيخ الذي ظل على جلسته في مكانه منذ عام 1975 إن الإسلام والقرآن هو الذي نجّى ذلك العميد الفرنسي. يرفع كفه قليلا، ألاحظ أنها كبيرة وضخمة. يتذكر كيف كلفه حزب الاستقلال عام 1955 بأن يمنع المتظاهرين المغاربة من حمل العصي او الاسلحة اثناء مسيرة احتفالية بعودة محمد الخامس وأسرته من المنفى. أتخيله شابا طويلا قويا البنية. يتحدث عن نزع الكثير من الفؤوس والعصي من أيدي القادمين للمشاركة في المسيرة. يفصل أكثر: لقد كان ذلك في ساحة أحراش. بالقرب مقر فرع حزب الاستقلال ومقر الشرطة.
أرجع إلى التذكر. لقد كان صاحبنا يقف في المكان شربت فيه قبل قليل فنجاني رفقة السي امحمد.
هو كان يعترض سبيل مسببي الفوضى، ونادل عام 1979 كان يعترض على جلوسي في المقهى. أكاد أسمع بالتفصيل الشتائم وهي تنهال علي من فمي النادل وماسح الأحذية الأعرج.
إنه مكان مشحون حتى التخمة بالتاريخ.
(في السيلفي مع الاستاذ امحمد العلوي الباهي والشريف مولاي إدريس الأمراني)