وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
كادت إحدى الحمامات تصطدم بي وهي تحلق هاربة مع مجموعة من أخواتها بعد أن أزعجتهن أثناء التقاطهن لفتات الطعام. لم أتعمد هذا الإزعاج، فقد كنت أحملق في أعلى بناية قديمة استرعت نظري فيها حروف بارزة لاعلان تجاري يقول: مونتاغ بورتون، خياط الذوق الرفيع Montague Burton: Tailor of Taste.
أعيش في مقاطعة ساري، جنوبي لندن، منذ نحو عقدين من الزمن، وأمر أمام هذه المبنى التجاري باستمرار، لكن عيناي لم تقعا على ذلك الاعلان المنقوش بحروف بارزة في الصخر إلا ظهر اليوم. قطرات المطر الخفيفة هي التي حفزتني على النظر إلى السماء. لقدرحل الصيف، وعادت بريطانيا إلى توقيت غرينتش، مع ما يرافقه من ظلمة وأجواء رمادية تجثم على الأنفاس لمدة تزيد على ستة أشهر.
تحلق الحمائم بعيدا، فأمسح قطرة ماء ارتطمت بوجهي، لا أدري إن نثرها علي حناح إحداها، أم نزلت من ورقة شجر لا زالت صامدة في وجه صفرة الخريف.
صوت المقهى ينادي، فأحث الخطو وسط حفيف الأوراق الميتة التي ملأت أرضية هذا الشارع التجاري.
وجه جديد انضم لموظفات المقهى. تسألني بلكنةٍ حرف الراء فيها قوي. إنها من بلدان أوروبا جنوب شرقي المتوسط. قد تكون يونانية. هذا الصنف من الشباب يعمل في المقاهي لمدد قصيرة. غالبيتهم من الطلاب. يعملون بشكل مؤقت ويحضرون أنفسهم للعودة إلى بلدانهم حاملين دبلومات.
نحن أيضا يرحل عشرات الآلاف من طلابنا سنويا نحو الغرب للحصول على شهادات عليا. يدفع الآباء الغالي والنفيس نظير تكاليف الدراسة والسكن والمعيش. لكن قليلا منهم يعودون بعد انتهاء سني الدراسة.
حين حصلت على الاجازة الجامعية قبل ربع قرن، علمت بمجيء أحد زملائي لاكمال دراسته في انجلترا. وبعد مضي فترة طويلة، التقيته صدفة في مطار الدار البيضاء حيث كان ينتظر ركوب الطائرة القادمة نحو لندن. كنت أتوقع له حينما سافر أول مرة أن يعود حاملا معه دبلوما ليصبح واحدا ضمن أساتذة الانجليزية في جامعة وجدة التي درسنا فيها. سألته بعد أن زالت الكلفة بيننا عما آل إليه أمره في انجلترا، فأجاب خجلاناً: أنا سائق حافلة (باص).
لم أر سببا معقولا لخجله، فقلت له: ألا تعلم أن ابن أحد رؤساء وزراء بريطانيا السابقين يعمل أيضا سائق حافلات مثلك؟.
طبعا لم يكن صاحبي ليقبل بمثل هذه المهنة في بلده الأصلي، حتى ولو منحوه راتبا يوازي ما يتقاضاه هنا في بريطانيا أو يزيد عليه، وهو راتب مهما علا يظل هزيلا مقارنة بتكاليف العيش.
آخذ الفنجان وأبحث عن مقعد فارغ وسط حشد من شباب أوروبا الشرقية الذين ملأوا المقهى ضحيجا بقهقهاتهم. إنهم يستمتعون بهذا اللقاء الذي يقربهم قليلا من أجواء بلدانهم. كلهم ذوو عضلات مفتولة. الأكيد هو أن نظراءهم الانجليز لن يغامروا باستفزازهم مساء في الحانة.
يظل اسم (مونتاغ بورتون) يرن في دماغي. أريد أن أعرف المزيد عنه، فأبادر بالبحث عنه في محرك غوغل. آه يا لسرعتك يا شيخنا. هكذا كنت ألقب غوغل في بداياته قبل عقدين من الزمن، حين كان يشق طريقه بقوة ضد محركي Hotbot وAltavista اللذين لم يعد يتذكرهما سوى القليل من الناس.
تظهر النتائج على الصفحة، فأضغط على أول رابط، لأعرف من خلاله أن آل بورتون يهود قدموا من ليثوانيا في مطلع القرن العشرين، وقد فتحوا سلسلة متاجر لخياطة السترات الأنيقة (suits) حسب مقاس الزبائن في الفترة ما بين 1920 إلى حدود ستينيات القرن ذاته، في زمن نجومية السترات. يا له من زمن! الأناقة تتغير حسب موجة الذوق العام. لكم سخرنا في مطلع شبابنا في ثمانينيات القرن الماضي من ملابس عبدالحليم حافظ الفضفاضة. ألم تكن قمة في الأناقة والجمال في زمنه؟؟. ظلت سلسلة مونتاغ بورتن تحتل الصدارة حتى أواخر الستينيات، ثم توارت إلى الخلف، لتتحول إلى مجرد اسم غويب منقوش في الصخر بسطح بناية.
ينط إلى ذهني مالك شبكة متاجر Topshop للملابس النسائية الأنيقة، الملياردير سير فليب غرين، الذي يشغل في هذه الأيام عناوين الصحف ونشرات الأخبار في بريطانيا، بعد ذكره بالاسم في مجلس اللوردات في ملف يتعلق بمزاعم عن ممارسته "التحرش الجنسي غير القانوني والتلفظ بعبارات عنصرية" ضد بعض موظفيه.
بدأ فليب غرين، وهو من أسرة يهودية فقيرة، حياته المهنية عاملا داخل أحد محال بيع الأحذية في النصف الأول من سبعينيات القرن الفائت، وبعد ثلاثة عقود ونيف أصبح مالك عدد من الشركات والسلاسل التجارية، وتقدر ثروته بمليارات من الدولارات.
يتعرض السير غرين حاليا لحملة قوية تهدف إلى سحب صفة "فارس Knight" التي حصل عليها من الملكة، كما يطالبه عدد من النشطاء والنافذين بأن يتنحى عن ميدان الأعمال، ويتفرغ بدل ذلك للأعمال الإنسانية، بعد أن حقق كل أحلامه المادية.
تعلق إحدى الخبيرات في شؤون الموضة بأن زمن السير غرين يوشك على الانتهاء، فالناس أصبحوا أكثر ميلا للتسوق غبر الانترنت، إضافة إلى أن الإقبال المجنون على شراء الملابس قد قل. فهنيئا للمدافعين عن سلامة البيئة!، تنهي السيدة مداخلتها أثناء استضافتها على قناة سكاي نيوز الانجليزية.
أتفق مع السيدة في ما يتعلق بالبيئة، لكن لا أصدق أن الاقبال المجنون على الملابس قد تراجع. على الأقل ليس في العالم العربي.
الحديث عن مطالبة السير غرين بالتفرغ للعمل الانساني يذكرني بأحد مديري الخدمة العالمية في البي بي سي. فبعدتراكم أخطاء في أسلوب إدارته واختياراته، أعلن استقالته من منصبه الكبير، ومنه انتقل فورا للعمل في إحدى المنظمات الخيرية، لعله "يكفِّر" بذلك عن أخطاء، أنا مقتنع من موقعي بأنها عادية. لكن غير العادي هو قراره التفرغ للعمل الإنساني. فكم من مسؤول كبير أو صاحب ثراء فاحش في أوطاننا نذر بقية حياته للعمل الخيري.
أرتشف من الفنجان الذي برد. ألتفت إلى يميني ، فإذا بسيدة مسنة قد غطّتْ في النوم وهي جالسة!.
يا مقهى، لكل منا فيك غرض هو قاصده!.