وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
لم تمر جرعة القهوة بحلقي الا بعد أن أحدثت ألما خفيفا. منذ أيام كنت أتناول سمكة فإذا بإحدى شوكاتها تفلت رغم حرصي الشديد على تنقية طعامي من الشوائب. قد يكون ما خدث تطبيقا لقانون الدفاع الذاتي. فما من حيوان أو نبات إلا وله وسائل دفاعية أثناء الحياة وربما بعد الممات. لكن ما ذنبي أنا وهذا الصراع؟ إن صدقنا نظرية النشوء والارتقاء التي جاء بها داروين ومن هم على شاكلته، فإن أسلاف هذه السمكة بدأوا رحلة تطورهم منذ نحو 530 مليون سنة. إن دماغي لا يستطيع أن يستوعب رقما زمنيا بهذا العدد، ونحن الذين نعتبر بضع سنوات من العمر ردحا من الزمن!. بالتأكيد إن سايرت هذه النظرية فإن أسلاف تلك السمكة بدأوا بأفواه لا فك فيها، وكانوا يشبهون الأفعى، ثم تواترت حقب تطورهم ليتفرقوا أنواعا وأشكالا أضخمها في وقتنا الحالي هي الحيتان، وألذها قد تكون التونة أو السلمون أو حتى السردين الذي يعجبني طازجا مشويا. على العموم لقد استقرت شوكة سمكة في حلقي، وأين؟ في المكان الذي نسميه مجازا تفاحة آدم. يالها من مصادفة؟ لقد اختارت سليلة تطور السمك أن تدس شوكتها في التفاحة اللعينة التي قذفت بآدم وحواء على هذه الأرض. الرواية الدينية تذهب إلى أن إبليس نزغ لدى حواء وجعلها تشك في وفاء آدم لها، فما كان منها إلا أن استحلفته، وانتهى الأمر بهما إلى الاقتراب من الشجرة الملعونة والأكل من ثمارها، في خرق واضح للأوامر الإلهية. ومنئذ ونحن المنحدرون من سلالتهما نعيش امتحاننا على هذا الكوكب الغريب عنا. لقد نزلنا إليه فضايقنا الحيوانات والنباتات والهواء والمحيطات.
يا لها من معركة بين نظرية داروين ومنطوق الدين تجري في "تفاحة" عنقي.
آخذ جرعة أخرى من القهوة، ثم أرفع عيني عن شاشة الهاتف. تبادلني النادلة ابتسامة "مهنية". إنها شابة ايطالية وقد بدأت للتو حديثا بصوت مرتفع مع زبون يبدو من لسانه أنه هو أيضا ايطالي. لعل هذه الفتاة فكرت في لحظة ما في هذه الأيام بأن وجودها هنا في لندن لن يطول، فحكومة هذا البلد تقول إنها اتفقت مع الاتحاد الاوروبي على ما نسبته 95 في المائة من الملفات المتعلقة بخروجها من المؤسسة الأوروبية. إنه ملف لا يكاد ينقضي يوم واحد دون أن يثير أسئلة جديدة ويكشف عن مزيد من الخبايا. صباح اليوم كنت أتابع برنامجا سياسيا يقدمه على شاشة بي بي سي الصحفي أندرو مار Andrew Marr. كان من بين ضيوفه رجل أعمال يدعى آرون بانكس Aaron Banks، وهو صاحب مجموعة من شركات التأمين ويخضع حاليا للتحقيق في مصدر ثمانية ملايين جنيه استرليني حولها قبل أكثر من عامين لتمويل حملته الداعية الى الخروج من الاتحاد الاوروبي. إنها عين الرقابة التي لا يفلت منها أحد، أوتقريبا. ومن سوء حظ بانكس أنه قدم برجليه إلى الاستوديو ليحاوره مار، هذا الصحفي الواسع الاطلاع الذي حاصر ضيفه بأسئلة جعلت أنفاس هذا الأخير تكاد تختنق. حاول بانكس أن يراوغ، لكن مارّْ ، شأنه شأن جيريمي پاكسمان ولفيف آخر من الصحفيين الغربيين، يعرفون مهنتهم جيدا وقد أتقنوا فن السؤال، دون تجريح أو تقليل من أهمية الضيف أو ممالأة.
من ركن عيني أرى كف سيدة يرفع كوب قهوة من الورق المقوى. إنها منهمكة مع ابنها في لعبة أوراق. يبدو أنها تعلمه بعض المفردات بالاسبانية. فجأة يغادر الطفل أريكته الجلدية الوثيرة إلى المرحاض. هكذا يجعلون وقت فراغهم لا يمضي فارغا. مساء أمس وبينما أنا عائد إلى البيت على متن القطار، تركت مقعدي لسيدة مسنة. شكرتني كثيرا. بقيت واقفا بجانبها نتيجة ازدحام شديد ناجم عن عودة جمهور تابع مباراة في كرة الرغبي بين فريق انجلترا ونظيره من جنوب افريقيا. رفعت السيدة المسنة هاتفها المحمول، ثم تسلمت دفترا من صديقة لها كانت تجلس خلفها، وشرعت في تدوين معلومات من الهاتف. تأملت أصابعها المتجعدة. كأنني أرى آثار أقلام مرت بينهما. قد يكون ذلك استمر عقودا من الزمن. وربما كان ذلك في زمن الريشة والمحبرة، قبل أن تظهر الأقلام الجافة. لا زال البعض منا يكتب بالقلم، لكن أعدادهم تتناقص يوما بعد يوم. سيأتي زمن تصبح فيه الأقلام مجرد مقتنيات تزين بيوتنا، مثلما يحب الكثير منا حاليا امتلاك الفونوغراف وصندوق الراديو الضخم الذي لم يعد يصلح إلا كديكور.
ذات مرة كنت على متن القطار في أحد البلدان العربية، وكانت بجانبي سيدة في مثل سن المرأة التي تنحيت لها عن المقعد أمس، وكان لديها هاتف "ذكي". ظلت أختنا تسجل فيه رسائل صوتية، وتتلقى ردودا عليها تلعبها بصوت مرتفع. إن أختي في العروبة لا تعرف من ذلك الهاتف سوى أنه وسيلة لممارسة النميمة.
انتهت السيدة البريطانية من تسجيل الملاحظات على الدفتر، ثم أرجعته لصديقتها، وأخرجت كتابا من حقيبتها اليدوية. حتى الكتب الورقية بدأت تتلاشى. كل شيء أصبح محفوظا في الهواتف والحواسيب اللوحية. بل إن ذاكرة هذه الأجهزة لم تعد صالحة كثيرا لتخزين هذه المواد، فقد انتقلت مكتباتنا الافتراضية وملفاتنا إلى الـiCloud وشقيقاتها. وإذا ساتمر الحال على ما هو عليه فإن الأوراق ستختفي في غضون عقود من الآن. سيكون ذلك أمرا مفرحا لدعاة حماية البيئة. وقد ينقص بعض التلوث الذي يفسد المياه التي تعيش فيها أخوات السمكة التي التصق جزء من شوكتها بحلقي. لكن السؤال لنا نحن الناتجون عن التهام آدم للتفاحة اللعينة، ماذا سنفعل لو أن أحدا من سلالة هولاكو يهاجم خوادم تلك المواقع الافتراضية وتكون لديه القدرة على مسح كل ملفاتنا وكتبنا بشكل لا رجعة فيه؟ هل سندخل مرحلة مظلمة كالتي أعقبت سقوط بغداد وإحراق مكتباتها؟.