وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
أدركت منذ اللحظة الأولى أن حركتهما الالتفافية حولي ليست عادية. ألصقت حقيبتيّ بجسمي وجعلت إحداهما تتكئ على جيبي. لم أكن أريد فقدان هاتفي الموجود فيه.
نظرت في النافذة المقابلة فإذا بي أرى طيف أحدهما وهو ينظر إلى سروالي ويغمز صاحبه. قلت مع نفسي: بالتأكيد لقد وقعت في رادارهما.
لم يخب توقعي. ما إن وصل القطار الى محطة (Gare du Nord) الباريسية حتى التف أكبرهما سنا وأضخمها جسما حول إحدى حقيبتيَّ وبدأ يجرها عمدا بكيس بلاستيكي في يده. تبعته وأنا ألتفت إلى الخلف، فوجدت صاحبه، وكان صغر سنا منه، يحاول اخفاء جيب سروالي بمحفظة، ثم دس كفه فيه. قبضته عليه بسرعة وأنا أغادر العربة، فتبعني والآخر يحاول أن يلهيني. صرخت فيه: تبا لك أيها اللص الحقير. ثم رفعت صوتي والناس ينظرون: يا لك من وضيع أيها اللص. تبا لك!.
لحق بي رجل ذو سحنة مغاربية وقال: لقد ساورتني الشكوك حولهما منذ صعدا معك من محطة مترو Chatelet.
من الناذر أن أتعرض لمحاولات النشل. فلقد تعلمت الدرس في عام 1989 حين كنت أهم وأحد أصدقائي بامتطاء قطار في المغرب من بلدة تاوريرت إلى وجدة، كبرى مدن المغرب الشرقي. في مدخل العربة قام ثلاثة أشخاص بعملية التفاف حول أحمد، صديق العمر، وقد كان مهووسا بمشاهدة الأفلام البوليسية. وما هي الا ثواني حتى وضع يده في جيبه الخلفي بطويقة هوليودية، فيجد حافظته الجلدية قد اختفت. استدار أحمد نحو أول شخص خلفه وصاح موجها سبابة يده اليمنى: أرجع الحافظة والا سأكسر أسنانك!.
أصيب الرجل الواقف بالذهول فطلب من شخص كان يقف بجانبه أن يرد له الحافظة.
جرى الدم في عروق أحمد، وركبته الحماسة، فقال لهم لقد وقعتم في يد من سيلقنكم درسا لن تنسوه. هذا صديقي، مشيرا إليّ، مفتش شرطة ولن تفلتا منه اليوم.
يا للورطة يا أحمد ماذا فعلت لك؟. لم أستطع أن أحرج صديقي، فتظاهرت للجماعة بأنني موافق على كلام صاحبي. كنت حينها شابا نحيفا طويل القامة، وأرتدي "جاكيت" جلدية من النوع الذي يفضل مفتشو شرطة زمان ارتداءه.
دخل أحمد في مفاوضات وجدل مع النشالين الذين عرفنا أنهم من قسنطينة، شرقي الجزائر، وأنهم كانوا في زيارة إلى المغرب أثناء فترة فتح الحدود البرية مؤقتا بين البلدين.
استعدت هذه الذكرى وأنا أنظر إلى اللصين الإفريقيين يذوبان وسط جموع المسافرين في محطة (la Gare du Nord) المعروفة بكثرة النشالين.
أثناء امتطاء عربة المترو بين محطتي George V وChatelet كان صوت أنثوي مسجل يحذرنا بين الفينة والأخرى، بالفرنسية والانجليزية والصينية واليابانية والألمانية، من هذه الفئة من اللصوص. تساءلت لماذا لا يفعل ذلك باللغة العربية؟. من باب السخرية قلت ربما يعرف القائمون أن غالبية المتحدثين بالعربية ممن يركبون المترو هم من بلدان مغاربية. ونحن أهل المغرب الكبير تربينا على أن لا ننام ملء الجفونفي أي مكان عام، وألا أن نثق فيمن حولنا. ربما لأن الحينات عندنا تربت على ذلك لأن أرضنا كانت على مر التاريخ محط أطماع المتربصين.
لقد ضاع على نشال المترو وصديقه هاتف ذكي وجواز سفر تقادم وفقد الكثير من بريقه من كثرة الاستعمال. بل لربما اوراق هذا الجاوز لا زالت عالقة بها آثار الغاز المسيل للدموع الذي استنشقته أمس بكثافة أثناء تغطيتي تظاهرات السترات الصفر في شارع الايليزي. من حسن حظي أن الأمس لم يشهد أعمال تكسير وتحطيم ونهب كما حدث السبت الماضي. وقد كنت حينها أتفقد جيبي كل حين للتحقق من أن الأوراق لم تضع أثناء اختراقي جموع المتظاهرين.
مرت مظاهرات أمسزإذن بسلام لأنه يبدو أن خطاب الرئيس ايمانويل ماكرون كان له مفعول كبير في اقناع أعداد هائلة من المتظاهرين بالعدول عن فكرة الخروج مجددا. ومن خرجوا منهم فعلوا ذلك بدافع الرغبة في ايصال الصوت القائل بأن ما تحقق لا يفي بالغرض. لكنهم فعلوا ذلك بمسؤولية ونضج، مبعدين بذلك أنفسهم عن فئة المخربين الذين ينشطون في الزحمة، تماما كما ينشط نشالا اليوم في زحمة مترو الانفاق وقطارات الضاحية بباريس.
لعلهما يلعنان حظهما العاثر الذي قادهما إلى صحفي مغاربي قضى حوالي ثلثي عمره مسافرا عبر كل وسائل النقل.