وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
وقف وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت Jeremy Hunt وسط حشد غفير من الناس وقال:
"لقد تقلدت مهام منصبي في يوليو الماضي.. ولأنني قبلها مباشرة كنت وزيرا للصحة، فلا بأس في أن أحكي لكم نكتة عن ثلاثة أشخاص، أحدهم طبيب، والثاني دبلوماسي، والثالث سياسي. قال الطبيب: لولاي لما استطاعت البشرية أن تعالج من الأمراض وتتفادى الموت. فرد عليه الديلوماسي: لولاي لما استطاعت الدول والشعوب أن تجد طريقها نحو التعاون وحل المشاكل وإطفاء الحروب. فتدخل السياسي قائلا: لكن لولاي لما حصلت الفوضى والحروب التي جعلت الدبلوماسي يجد حلولا لها، ولما وقعت الاضطرابات والمآسي التي تجعل الطبيب يقدم العلاج".
تعالت القهقهات.
كان هانت بقامته الطويلة وجسمه النحيف يخطب فينا مساء اليوم الثلاثاء في حفل تقيمه وزارة الخارجية البريطانية بمناسبة أعياد الميلاد.
لم يكن يقرأ من ورقة رغم أنه يفترض فيه أن يزن كلماته جيدا. لكنه بدأ كلمته التلقائية بالثناء على موظفي وزارته. إنه الاعتراف والعرفان لذوي الفضل الحقيقيين. فجيش الدبلوماسيين وموظفي السفارات والقنصليات هم من يزودون المملكة المتحدة بالمعلومات المطلوبة، وهم من يفتحون جسور التعاون مع الدول الأخرى بمهنية عالية والتزام دقيق بما هو مطلوب منهم.
في إحدى المرات كاد صديقي "الغضوب" أن ينطح رأسه مع الجدار غضبا من موظفة في الخارجية البريطانية كانت ترافقه قرب جسر وستمنستر. ولأنه أراد بتلقائيته أن "يقوم بالواجب"، اقترح عليها فنجان قهوة و"سندويتشا". قبلت الموظفة دعوته لكن حين جاء موعد الدفع أصرت على أن تؤدي ثمن القهوة والسندويتش. حاول الغضوب معها، لكنها رفضت وتمنعت مؤكدة أن "مدونة السلوك" المتبعة في الوزارة تحتم عليها ألا تقبل بمشروب من أحد.
دفعتني سيدة كانت ضمن الحاضرين معنا في قصر لانكاستر هاوس Lancaster House الملكي الذي استضاف حفل هذا المساء. ثم انتبهت إلى فعلتها فالتفتت نحوي قائلة: sorry sir, it is suffocating here.
معذرة سيدي فالازدحام شديد هنا!.
ابتسمت لها، محاولا ألا تضيع علي كلمة هانت.
استمر الوزير البريطاني في إشاعة جو من الفكاهة رغم جسامة مهام البريكسيت التي تواجهها حكومة رئيسته، تيريزا ماي.
جال بعينيه باحثا عن الصحفيين وسط جيش السفراء الحاضرين، ثم قال: "لعل ما يضحكني هو ما حدث أثناء زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المثيرة لبلدنا خلال هذا الصيف. فقد أردت أن أنوه بأهمية التحالف القائم بين بريطانيا والولايات المتحدة، لذلك قبلت بإجراء مقابلة مع قناة (فوكس). اقترب مني الفريق الاعلامي بالخارجية ونبهني إلى أن عددا كبيرا من البريطانيين يشاهدون هذه القناة".
أتوقف عند هذه النقطة التي تبرز مدى اعتداد الوزير بالدور الاستشاري الذي يقوم به قسم الصحافة في وزارته، وهو قسم كبير عددا ولديه غرفة أخبار تشبه مؤسسة إعلامية قائمة بذاتها.
ثم وصل هانت إلى مربط الفرس قائلا:" لما شاهد الرئيس ترامب تلك المقابلة على قناة فوكس قال: ""لقد أعجبني هذا الرجل، رغم أنني لا أعرف من هو"".
ضجت القاعة بالضحك. واستطاع بذلك هذا الوزير الشاب أن يمرر عددا من الرسائل عن الحرب في اليمن وميانمار وعن معاناة الصحفيين في ربوع شتى من العالم إضافة إلى الخروج المرتقب لبلاده من الاتحاد الاوروبي. لكنه عوض أن يستعير من قاموس الخشب كلماته، كان تلقائيا ومنفرج الأسارير ، فكسب قلوب الحاضرين، بمن فيهم بعض الدبلوماسيين العرب من ذوي الأجبُن (جمع جبين) المقطبة.