وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
أحيانا وأنت تتخطى مداخل بعض البنايات، يخيل لك أن عقارب الزمن تعود فجأة سنوات أو عقودا إلى الوراء. على الأقل هكذا كان شعوري وأنا أدخل مبنى قديما في وسط المدينة القديمة بجبل طارق، للقاء شخصين تواصلت معهما عبر الهاتف والاميل.
كنت أتصورهما شابين في مقتبل العمر، فإذا بأحدهما قضى ما يزيد على نصف قرن في الصحافة، وثانيهما تجاوز الستين.
لم يمنحاني الوقت الكافي للحديث، اذ دعاني ليو، وهو اصغرهما سنا، لاحتساء فنجان قهوة في الركن المفضل لدى صاحبه الاكبر سنا، جو.
كان طقس جبل طارق باردا تلفه غيوم داكنة. الشارع الضيق يحيل في الآن ذاته الى طرقات دبلن وبرشلونة. شرفات المنازل المتقابلة تكاد تعانق بعضها البعض. وخصوصية السكان لم تكن تنال اهتماما كبيرا لدى من بنوا هذه الدور في القرون الماضية.
استقبلتنا رائحة القهوة الطازجة في مدخل المقهى. الزبائن من كل الأعمار متحلقون حول الطاولات، كل في طعامه وشرابه منهمك.
أسرع النادل بتوجيه التحية الى جو وليو، ووجه لي ابتسامة خفيفة. نظر إلى جو بعينين متثاقلتين، ثم سأل: ما الذي تريد معرفته؟.
كان رأسي يغلي بالأسئلة، والمعلومات المتجمعة لدي كثيرة. أليس هذا الجبل هو الذي علمونا في المدرسة ان القائد الأمازيغي المسلم طارق بن زياد خاطب فيه جيشه قبل الزحف على الأندلس: أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله الصدق والصبر!.
كنت أردد هذه الكلمات في صباي وأن أطل على الجبل البعيد من شاطئ بلدة القصر الصغير المغربية، المقابلة له. كنت أتخيل وأنا لم أتجاوز من العمر أحد عشر عاما، وجود بقايا القوارب التي أحرقها طارق بن زياد لكي لا يفكر مقاتلوه في الارتداد على أعقابهم.
قلت للسيد جو: ما هو شعور الناس هنا إزاء البريكست؟.
نظر (جو) إلى (ليو) الذي كان منهمكا في تحريك قرصين لتحلية القهوة، ثم قال: نحن هنا نود البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي. إن ما ارتكبه الناس في المملكة المتحدة يعد جريمة بحقنا نحن في أراضي ما وراء البحار. إنهم لم يعيشوا الحصار الذي كان مضروبا علينا من قبل فرانكو.
ظهرت على أنف جو بعض التقرحات الناجمة عن تراجع قدرات جسده على الهضم بفعل السنين. لكن ذاكرته متقدة جدا. شعرت ببعض الانفعال يظهر عليه حين سألته عن سنوات الحصار.
في أواخر عام 1969 أمر الدكتاتور الاسباني فرانكو بإغلاق المعبر البري الوحيد بين جبل طارق وبلدة لالينيا المجاورة له. وكان ذلك القرار بمثابة رد فعل عنيف على استفتاء أجري في صخرة جبل طارق عام 1967 سئل فيه السكان إن كانوا يريدون سيادة مشتركة لاسبانيا وبريطانيا، أم يبقون تابعين للتاج البريطاني، فكانت الغالبية العظمى مع البقاء في كنف بريطانيا التي استولت على الجبل عام 1704.
استمر اغلاق المعبر الحدودي حتى عام 1982.
سألني ليو، الذي ظل صامتا لبعض الوقت: هل أجريت اتصالات مع أي مسؤولين في حكومة الجبل؟. قلت له أي نعم. لقد اتفقت مع نائب رئيس الحكومة المحلية على أن يستقبلني في منتصف النهار.
هز ليو رأسه وسألني: تقصد الدكتور غارسيا. أجبته أجل.
انطلقنا في حديث شمل المكونات الدينية المتعايشة منذ قرون، حيث يعتبر اليهود العماد الاقتصادي لسكان شبه هذه الجزيرة، ثم المسيحيون الكاثوليك والبروتستانت، إضافة إلى المسلمين الذين ينحدر غالبيتهم من طنجة، تماما كما هو حال عدد كبير من اليهود. تحدثنا عن الاقتصاد والسياسة والعسكر والحكومة. ثم قال ليو: بالمناسبة، الدكتور غارسيا الذي ستلتقي به، هو ابن السيد جو. قهقهنا بصوت مرتفع أثار انتباه الزبائن المجاورين.
ثم حل موعد الفراق. كل شيء تم بسرعة. وما بين التلاقي والافتراق نشأت مودة وألفة غريبة.
كنت أتوق لصعود قمة الجبل مستعملا عربات التلفريك المعلقة. هناك سيكون لي موعد مع قردة الأطلس، التي يعيش مئات منها في الغابة التي تكسو المنطقة.
في أربعينيات القرن الماضي، أمر رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرتشل بإكثار سكان الجبل من القردة، فاستقدموا أعدادا منها من الجبال المغربية. شعرت بألفة جديدة مع تلك القردة. إنها من غابات بلادي. لقد تعودت على رؤية السياح. كان المصور منهمكا في تسجيل تدخل لي أمام الكاميرا، وفجأة نبهتنا فتاة هولندية قدمت مع فوج من الطلاب، إلى شيء ما يحدث قربنا. نظرتُ الى الأرض فإذا بقرد منتفخ الأوداج فتح بمهارة حقيبة لنا تحوي تجهيزاتنا، وبدأ يفكك أسلاك الميكروفون. هششت عليه فنط فاراًّ، لكنه في الطريق اختطف علبة حبات عباد الشمس من سائحة تجمدت في مكانها وقد هالها ما حدث. كان الضباب قد بدأ ينقشع. في أسفل الجبل يظهر لنا الميناء. بمدخله تطفو غواصة بريطانية. القوة النارية هي التي أبقت المملكة على وجودها في مدخل مضيق جبل طارق. قبل أيام حدثت مناوشات بين زورق حربي بريطاني وآخر اسباني. يقول البريطانيون إن القطعة البحرية الاسبانية تحرشت بهم بينما كانوا في "المياه الاقليمية لجبل طارق". يصعب ان يعرف المرء حقيقة ما حدث. في عام 1713 أبرمت معاهدة أوترخت بين القوى الاوروبية لوقف الحروب بين عدد من الدول. ووفق هذه المعاهدة اعترفت اسبانيا بسيادة بريطانيا على جبل طارق. لكن الاسبان يقولون انهم يعترفون لها بالسيادة على اليابسة فقط، اما البحر فلا حق لها فيه.
يضحك ستيوارت، صاحب محل لصنع الاواني الزجاجية الفاخرة حين أبلغه بهذا. يقول لي: إن الاسبان يأتون تصرفات صبيانية. تصور أن أحد زوارقهم الحربية اقترب من مينائنا قبل اسبوعين، ثم أطلق موسيقى نشيدهم الوطني (المسيرة الملكية Marcha Real) عبر مكبرات الصوت بهدف تذكيرنا بسيادتهم على حبل طارق.
قاطعته: ألا تخشون من التعرض لعملية اجتياح رغم علمي بأن اسبانيا وبريطانيا عضوان في الحلف الأطلسي؟.
قهقه ستيوارت وقال:" أتعرف الطاووس؟ هذا هو حال الاسبان. يتحرشون وينفشون ريشهم، لكنهم سرعان ما ينكمشون في ساعة الجد. لقد جربونا في الماضي وعرفوا من نكون. وحاولوا ذلك مع المغاربة، ورغم تفوقهم عليهم بالسلاح والتكنولوجيا، فإنهم يترعشون منهم خوفا. ولما ينسون ذلك، نذكرهم بمن هم (الموروس) الذين تحرعوا منهم الموت الزعاف ابان الحرب الاهلية الاسبانية.
تقفز في ذهني سبتة ومليلية والجزر الجعفرية التي يقسم الاسبان أنهم لن يغادروها أبدا. هكذا يقولون...
رغم صغر مساحة جبل طارق التي لا تتحاوز ستة كيلومترات مربعة، فإن الحديث عنه يطول...
ارفع فنجاني، فإذا به اصبح فارغا.