وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
صباح اليوم توجهت إلى قسم الاستقبال في الفندق بجنيف لمعرفة رقم الغرفة الجديدة بعد أن طلبت تغيير الطابق الذي أنزل فيه، فإذا بموظفة الاستقبال تعتذر بشدة عن إغفالها طلبي غير متعمدة. ثم وعدتني بتدارك الأمر وقد علا الخجل والقلق وجهها. تشتغل هذه الفتاة ومئات الآلاف من مثيلاتها في الفنادق عبر ربوع العالم في ظل ظروف قاسية نتيجة الوقوف لساعات دون حراك من أماكنهن، ويتحملن خلالها وقاحة زبائن من الجنسين، يتصورون أن هذه الفئة من العاملين مجرد عبيد أو خدما وحشما يجب التعسف عليهن، وكثيرا من يتدنى الأمر إلى التحرش الجنسي بهن.
في الفنادق تقوم نساء بتنظيف الغرف، بدءا من المراحيض ومرورا بالأسرّة والأغطية وأكياس النفايات. ذات مرة حدثني صديق لي عما تعانيه أولئك المنظفات وهن يجمعن مخلفات أشخاص قذرين لا يكلفون أنفسهم عناء إزالة أمور شخصية يخلفونها مع زوجاتهم أو صديقاتهم. في الغالب تكون هؤلاء العاملات ذوات مؤهلات بسيطة ورواتبهن متدنية.
وأنت مقبل على مطعم الفندق تجد في الغالب الأعم فتيات أو سيدات يستقبلنك بابتسامات عريضة وعبارات ترحيب مكرورة. يتحلق النزيل ومرافقوه حول طاولات ويطلبون ما طاب لهم من الطعام، بينما تلك الموظفة تدون طلباتهم بعناية، تنقلها الى رئيس الطباخين، وبينما يكون الطعام قيد الطهي يتأفف بعض الزبائن ويستعجلون العاملة التي تتلقى الطلبات بشكل متزامن من عدد من الزبائن. تحضر الطعام. بعضه لا يعجب الزبائن الملحاحين الذين يبحثون عن أتفه الأسباب لإطلاق العنان لصبيانياتهم. بعض العاملات لم يذقن أبدا ذلك الطعام لأن مواردهن لا تسمح بذلك.
في عام 2015 لفتت نظري سيدة وسط مظاهرة مسائية في مدينة سوسة التونسية احتجاجا على اعتداء ارهابي حصد ارواح 39 سائحا في تلك المدينة التي تعتمد كثيرا على عائدات السياحة. كانت السيدة متلفعة بالعلم الوطني لبلدها. هيأتها كانت توحي بالحرمان، فطلبت من المصور المرافق أن يركز عليها وعلى تحركاتها. ولما انتهت المظاهرة اقتربت منها بعد ان انضم اليها زوجها، سألتها عن عملها فقالت أنها منظفة في أحد فنادق سوسة وزوجها حامل حقائب. ثم تنهدت وأضافت: لقد أوقفوني عن العمل يوما واحدا بعد الاعتداء الارهابي لأن الزبائن ألغوا حجوزاتهم.
مضى يومان فزرت تلك السيدة، وتدعى سميرة، لإجراء مقابلة معها في بيتها بأحد أحياء ضواحي سوسة الفقيرة. كان البؤس والشحوب باديين على الزوج والأطفال، أما المنزل فأثاثه بسيط للغاية، وغير مرتبط بشبكة التطهير الصحي، وفيه كان البعوض يدخر لي عدة لسعات قارصة لازمتني لبعض الوقت.
لقد سهرت سميرة على تنظيف غرف يمر منها سياح وضيوف من مختلف الأقطار والطبقات الاجتماعية. لكن قليلا ما يتساءل أولئك الزبائن عن الخلفية الاحتماعية القابعة خلف الابتسامات التي تطلقها سميرة ومثيلاتها وموظفات الاستقبال بالفنادق من كل الاصناف، و"النادلات" في المطاعم الفخمة والبسيطة و"الهامبرغورية".
في يوم 8 يستحضر السياسيون وكبار المسؤولين و"المناصلون الحقوقيون" أوضاع المرأة، وهنا وجب توجيه التحية لصاحبات الابتسامات التي تخفي كثيرا من قصص الحرمان والتعسف والاستغلال والتحرش.