وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
في خضم تواتر المعلومات وتسارع الأحداث، أشعر أحيانا بالتعب فأخرج من غرفة المونتاجه شاقا طريقي وسط قاعة التحرير، ومنها إلى المطبخ. ليس للأكل ولكن للوقوف قبالة نافذته. زجاجها يمنحني زاوية نظر علوية على حديقة وارفة صيفا وشتاء، وخلفها مباشرة، لا يكف نهر التيمز عن التدفق السرمدي.
لهذا المكان الذي يسمى ميلبانك Millbank ماض مثير للاهتمام. وكثيرا ما يأخذني الحديث مع الزميل المهندس أندي، المنحدر من أبوين جاميكيَيٌن، إلى الأدوار الخطيرة التي لعبتها منطقة ميلبانك ووستمنستر في تغيير دفة بعض أحداث العالم، منذ بدايات القرن الثامن عشر. يقهقه أندي كلما حدثته عن أمجاد الأفارقة، أبناء القارة التي أنتمي إليها، وعشقهم للحرية رغم ما كابدوه، ومن بينهم أجداده، من استرقاق واقتلاع من الجذور ليشتغلوا في مزارع القطن والسكر والتبغ في تلك الربوع من بحر الكاريبي.
في ميلبانك بنت الحكومة البريطانية أول سجن بالمواصفات العصرية، وظل مفتوحا في وجه المعتقلين ما بين عامي 1816 و1890. وقد اختير له هذا المكان لقربه من مرفإ على الضفة اليسرى لنهر التيمز Thames، كان يُسخّر لترحيل المجرمين والأشخاص الميؤوس من تعافيهم اجتماعيا، إلى أستراليا. هنالك كانوا يمضون عقوباتهم، ولأن غالبيتهم لم تكن لديهم موارد مالية للعودة الى بريطانيا، فقد بقوا هناك، وتوالدوا، واستمر البعض منهم في ممارسة اجرامه ضد السكان الاصليين، الأبوريجنز Aborigines. ومنهم من تفرقوا في الجزر المجاورة.
قبل عشرة أيام (15 مارس 2019) انطلق أحد المؤمنين بتفوق العرق "الأبيض" على من سواهم في اللون والأصول، من سيارته وتوجه الى مسجدين في مدينة كرايست تشورتش النيوزيلندية، وطفق يطلق النار دون تمييز على المصلين العزَّل المسالمين، الذين جاءوا الى ذلك البلد النائي بحثا عن استقرار فقدوه في بلدانهم الأصلية، أو لعيش كريم لم يلاقوه إلا هناك. كان المهاجم قادما من أستراليا، ومتشبعا بعقيدة الإجرام التي لا يختلف فيها عن التنظيمات التكفيرية الدموية سوى بأنه "أوروبي" الملامح و"متحضر" المظهر.
بعد الهجوم بأربعة أيام وجدتني وجها لوجه مع شاب هولندي في ضواحي أمستردام نشرب القهوة ليلا ونتجاذب أطراف الحديث. سألته عن موقفه من تلك الجريمة البشعة الإرهابية التي كانت دماء ضحاياها لم تتجمد بعد. لم يتردد في إدانتها، والتذكير بمشاعر الخوف التي يبثها المتطرفون من أتباع مختلف الأديان.
لو قادني القدر للقاء ذلك الشاب قبل ستة أعوام وسألته عن الموقف ذاته، لكان جوابه أن المسلمين يستحقون القتل، لأنهم أتباع "دين عنف وبث للكراهية"، وأنهم قوم متخلفون، بل كان ينادي بإغلاق مساجدهم دور وطردهم من هولندا، وعموم أوروبا. لقد كان قياديا في تيار سياسي يميني اقصائي، يسمى حزب الحريات.
بسرعة انطلقت المودة بيننا وسقطت الكُلفة، فسألته كيف تلقى تربيته الأولى. أفرج عن ابتسامة طفولية لمعت معها أسنانه البيضاء الناصعة، التي لا يفوقها في اللمعان سوى صلعة رأسه الحليق. ثم قال: لقد ولدت لأسرة مسيحية شديدة التدين. كان الانجيل المقدس نبراسنا. وكانت المواظبة على حضور القداس جزءا من حياتنا.
وبينما أنا أصغي إليه، حضرني مشهد فندق قروي في مقاطعة باڤاريا قبل أربع سنوات. نزلت في ذلك الفندق الذي يسيره سيد مُسِن وزوجته. كان الفندق عبارة عن بيت قديم، مؤثث بشكل تقليدي رائع، وتحت الوسادة وجدت نسخة من الانجيل. تعامل صاحب الفندق معي بلطف بالغ، وحفاوة كبيرة. انطلقنا في نقاشات عن العنف والارهاب والاديان. وجدتني في موقف الباحث عن توضيح بعض الامور المغلوطة عن الاسلام. في العادة اتفادى الخوض في هذا الامر، لكن الرجل وزوجته استدرجاني، فتناقشنا، ووجدت أنهما قرآ عددا من المؤلفات عن الاسلام. ثم توقفا معي عند موضوع تزويج عائشة لنبي الاسلام وهي طفلة.
كانت هذه الواقعة هي التي حركت الهولندي الجالس أمامي. كيف لنبي أن يتزوج طفلة قاصرا، وكيف لمجتمع بدوي يدفن فيه الرجال طفلتهم الأولى حية، أن يقنع العالم المتحضر بالانضمام لدينهم.
اخذ صاحبي رشفة من كأس كوكاكولا، ثم مضى في حديثه.
"لقد قررت تأليف كتاب عن هذا الدين، يدعم أطروحاتي اليمينية المعادية للوجود الاسلامي في الغرب. لكن كان لزاما علي أن أدخض أفكار الإسلام بمقارنته بديننا المسيحي".
توقف لبرهة لما رآني أنظر إلى ساعتي اليدوية. كنت أرد معرفة الوقت لكي أعود إلى مدينة أوتريخت قبل منتصف الليل، حيث يأمضي الليل في الفندق، ثم أسافر صباحا الى بروكسل، بعدما ثبت للجميع أن الهجوم المسلح الذي شنه شاب تركي وسط أحد قطارات الترامواي بتلك المدينة، ليس ذا طابع ارهابي.
قلت لصاحبي: لا عليك، بالعكس إن حديثك ممتع، ومجالستة أكثر إمتاعا.
انفرجت أساريره، ثم قال: "لقد انتبهت الى علاقة مريم بجوزيف، حسب الكتاب المقدس. لقد كان جوزيف في الثمانين من العمر، وكانت مريم في سن المراهقة. إذن لماذا نعيب على نبي الاسلام ما لم نعبه على جوزيف ومريم؟". ثم انطلق يشرح لي السياقات التاريخية والثقافية التي لا يراعيها بعض الكتاب في انتقادهم لممارسات ليست مقبولة في زمننا هذا، لكنها كانت عادية في القرن الماضية. حدثني عن فصل في القانون الفرنسي كان يسمح للرجل بالحيازة على زوجته واعتبارها ضمن متاعه. عرج على القانون البريطاني الذي كان يمنح الرحل حتى اواخر القرن التاسع عشر، الحق في تملك كل ممتلكات زوجته. تطرقنا الى حرائم الشرف التي بقيت تحدث في صقلية حتى مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
لا أخفي أنني أعرف عن اليهودية الكثير بحكم التاريخ المختلط مع أتباع هذه الديانة في شمال افريقيا والأندلس، وبحكم الفضول المعرفي المدفوع بالصراع على أرض فلسظين. لكن معرفتي بالمسيحية محدودة للغاية، تكاد لا تتعدى ما يعرفه عامة الناس.
مضى صاحبي يشرح لي تطور فهمه وفكره، حتى وصل به الأمر الى تغيير معسكره، فاعتنق الإسلام!!.
قاطعته: هلا وصفت لي شعورك في اللحظة التي قررت فيها القيام بهذا الانقلاب الفكري والروحي؟.
ابتسم كالطفل، وقد انعكست على وجهه حمرة شمعة صغيرة بيننا، وقال: "لقد كان قرارا صعبا. لكنني أبحث عن الاطمئنان الداخلي. لقد بحثت عن الحقيقة بيدي. فقرأت القرآن والحديث وكتب التاريخ في أصولها. عملت على التمييز بين دين محمد كما أنزل، والصيغة المتشددة التي نشرها محمد ابن عبدالوهاب، وتغيرت وجهة كتابي من البحث عن ضرب الاسلام في العمق، الى انصافه".
توقفت قليلا لأجيب على اتصال هاتفي من زميلي المصور الذي بدأ صبره ينفذ، راجيا مني الاسراع بالعودة الى أوتريخت. طلبت منه التريث قليلا. فمتعة مثل هذه الجلسة التي تسقط فيها الكلفة لا تقدر بثمن.
اعتذرت لضيفي عن هذه المقاطعة، وسألته: كيف كان رد فعل أهلك ومحيطك؟
ابتسم مرة أخرى، رغم أن فكره كان لا يزال معلقا بابنته التي تعالج في مستشفى قريب : لقد قاطعني أعمامي، وغضبت مني أمي، وصدمت زوجتي. لكننا استطعنا تجاوز ذلك. لو كان والدي حيا لما سامحني. حتى جدِّي الذي غضب مني زرته ساعة الوفاة، فقال إنه سامحني.
تنهد صاحبي. فلم أترك له فرصة استجماع الانفاس: وماذا عن قيادة الحزب الذي كنت تنتمي اليه؟.
قهقه عاليا. التفت الجالسون في الموائد القريبة منا، وكانوا قلة، ثم قال: لقد شنوا علي حملة شعواء. تعال أريك ماذا قال عني خِيرتْ فيلدرز Geert Wilders زعيم الحزب.
أخذ هاتفه المتقادم، الذي تهشمت شاشته، وبدأ يبحث في حسابه على وتساب، ثم ضغط على مقطع فيديو. كان فيلدرز يتحدث اثناء استضافته في برنامج حواري شهير . فبدأ صاحبي يترجم لي، الى ان وصلنا الى مقطع يقول فيه فيلدرز زعيم حزب الحريات اليميني: "إن يورام ڤان كلاڤيرين Joram Van Klaveren يشبه الانسان العاشب vegan وسط مذبح للابقار".
كانت عقارب الساعة تقترب من الحادية عشرة والنصف ليلا. أردت أن أخفف على يورام الذي قضى سنين معاديا للمسلمين في هولندا، ووصل الى منصب نائب زعيم الحزب اليميني. قلت له: لعل ابنتك في المستشفى بحاجة اليك اذا استيقظت في هذه الساعة. فرد علي بتلقائية: لا تلق بالا لذلك. إن أمها بجانبها.
قمنا من مكاننا. فصافحني بحرارة، وقبل ان يغادر قال: رغم عدائي البيِّن سابقا للمسلمين، فأن المرة الوحيدة التي تعرضت فيها للتهديد بالقتل، كانت آتية من يساريين متطرفين غضبوا من مواقفي الداعية الى قتل الثعالب لوقف اعتداءاتها على مواشي وطيور المزارعين بهذه المنطق التي كنت نائبا عنها. أما المسلمون فأقصى ما نالني منهم هو أخذ صور (سيلفي) معي.
(في الصور المرفقة جلسة مع يورام ورسم لسجن ميلبانك التاريخي وسيلفي مع احد مساجد اوتريخت)