وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
ذات صيف فقدت توازني في مسبح صغير فامتلأ الفم والأنف ماءً، وانقطع النفَس فجأة. حاولت أن أملأ رئتيَّ بالهواء، فامتلأ الجوف ماء. كنت قاب قوسين أو أدنى من الموت. أتذكر وأنا أفتح عينيَّ، وجهَ والدي الذي اعتراه الشحوب والغضب، وهو يراني ممدا بجانب المسبح، وبعض الشبان والأصدقاء يطمئنونه في عصر ذلك اليوم الرمضاني الحارق.
كان ذلك واحدا من أبلغ الدروس الأولى التي تعلمتها عن الخيط الرفيع بين الحياة والموت. بين الحرية والسجن. بين الرخاء والفاقة. بين النور والظلام.
لعل شيئا من هذا الشعور دار قبل أيام بخاطر أربعة إخوة فتحت لهم الدنيا أبواب خزائنها لعقود من الزمن. كان الناس يسعون للقائهم والأخذ من "بركات" نفوذهم. كان يكفي أن يقتنع أحد الأربعة برجحان رأي الزائر، أو يرق له قلبه، أو يعجب بحديثه وملامحه، حتى يصيبه نصيب من "البركات".
لكن هذه هي الدنيا، يكمن سرها وقوتها في الخيط الخفي بين الشيء وضده.
جاءت لحظة، توزع فيها شكل الإخوة الأربعة بين من وضع رأسه بين كفيه، وآخر قد يكون ألقى السمع والبصر حواليه، فوصله صراخ العشرات حواليهم. حتى نور النهار الساطع أصبح يمر عبر ثقوب لوح كالغربال. والوجوه في الخارج مجرد نقط سوداء، أو خيالات.
"رحم الله أيام المجد!"، أتخيل واحدا من الإخوة يقول، وفي حلقه غصة.
تتوقف سيارة الدرك الوطني الجزائري أمام محكمة سيدي امحمد الشهيرة وسط الجزائر العاصمة. يسارع أفراد الدرك إلى إبعاد محتجين حاولوا مهاجمة العربة ومن بداخلها. ثم يخرج الأربعة مسرعين الخطوَ نحو مدخل المحكمة. تتعالى أصوات شبابٍ وشيبٍ يؤثثون هذا المشهد، ويلوحون بعلم بلادهم: "يا سراقين، أكلتم البلاد!".
في هذا الشعار ربما يكمن سر آفة تفتك بالانسجام المجتمعي على امتداد هذه المنطقة من العالم، في هذا الزمن الانتقالي في كل تجلياته.
يقف الحرس في مدخل المحكمة. وفي الداخل أطلقُ العنان لتخيلِّ ما دار بين قاضي التحقيق، والأربعة الذين يقال إنهم راكموا ثروة ضخمة جعلتهم يعتلون عرش المال والنفوذ في الجزائر، خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة.
لقبهم العائلي المدون في الوثائق الرسمية هو كونيناف. واللقب الأصلي النابع من تربة الأرض المرتوية بدماء الشهداء، هو اقْنِينَفْ. وهو تصغير لكلمة القَنُّوف أو القنّوفة، أي الوجه أو الفم حسب اختلاف لهجات المناطق. لكن مقتضيات "العصرنة والحداثة" تقنع الكثير من الناس في منطقتنا بتغيير أسمائهم أو تعديل نطقها، لكي تتلاءم وآذانَ ثقافات ولغات أناسٍ بعيدين عنا جغرافيا وعرقيا وحتى روحيا.
وهذا بحد ذاته أحد أوجه أزمة الهوية التي نتخبط فيها يوميا بشكل جماعي.
في مطلع الألفية زارني في الفندق بانواكشوط يافع موريتاني من المداومين على تتبع برامج إذاعة بي بي سي، كان اسمه محمد يحي. وهو اسمٌ أجدهٌ جميلا. لكن بعد مضي بضع سنوات سألتقي به مجددا في العاصمة الموريتانية، قال لي انه غير اسمه لكي يصبح نسيم. تشرفت مرة أخرى بمعرفتك يا نسيم.
كان تأثير المسلسلات المدبلجة قد بدأ يشق طريقه ليمضي في زعزعة ثقة الأهل بأنفسهم. لكن هذه هي القوة الناعمة. ونفاذ أسماء من قبيل مهنّد في الثقافة، أحدُّ من نفاذ السيف المهنّد.
لا علينا.
في محكمة سيدي امحمد بالعاصمة الجزائرية حقق وكيل الجمهورية مع الإخوة قنينف الأربعة، وهم كريم، ورضا ونوح وعبدالقادر. والملفات المشتبه في تورطهم فيها تتعلق ب"إبرام صفقات عمومية مع الدولة من دون الوفاء بالتزاماتهم"، واحتمال "استغلالهم لنفوذ الموظفين العموميين، وحصولهم على مزايا غير مستحقة، وتحويلهم لعقارات وامتيازات عن مقصدها الإمتيازي".
لو قيل لأي امرئ لديه ذرة من العقل، قبل 22 فبراير الماضي، إن قضاء البلاد سيحقق بعد شهرين من ذلك التاريخ مع واحد من الإخوة الأربعة، أو مع من هم على شاكلتهم، فإن الجواب "المنطقي" الساخر سيكون: رُحْ توكل على الله واخطيكْ من الخُرْطي ، ربي يشفيك يا خو !.
الأرض هي الأرض، والطرق هي الطرق، والدرك هو هو، والشعب هو هو. لكن المزاج العام تغير.
حين كان السي عبد العزيز بوتفليقة في رحلة التيه خلال ثمانينيات القرن الماضي بسويسرا، وجد في أحيان كثيرة سنده المالي في مستثمر جزائري يدعى أحمد "كونيناف". ولأن بوتفليقة ينتمي لجيل كانت "الرُجولة والوفاء" جزءا من ثقافته، فقد طبق هذه القاعدة مع صديقه.
عقب انتخابه رئيسا للبلاد في عام 1999 سيستدعي السي عبدالعزيز صديق سنوات الغربة، وسيسمح لنفوذه الرئاسي باغتراف عائلة قنينف التي يحمل أفرادها الجنسية السويسرية، صفقات في ميادين شتى، منها العقار، وشق قنوات أنابيب النفط والغاز، بل وحتى زيت الطعام ومعجون الطماطم الذي يدخل في إعداد طبق الشخشوخة الشعبي اللذيذ.
ستنمو ثروة آل قنينف وتكبر. وسيختفي من السوق منافس آخر لم يكن يلاقي هوى في نفس السي بوتفليقة، ويدعى الخليفة.
وفي عام 2004 سيموت رب العائلة، ليخلفه ابناؤه. سيصبح مسكنهم الفخم في منطقة حيدرة الراقية التي تطل على بقية مناطق العاصمة، مقصد كل ذي طموح سياسي، أو مشروع استثماري.
تقول الروايات المتداولة على أكثر من لسان في الجزائر، إن الصداقة الوثيقة التي تحولت إلى شبه تحالف "مقدس" بين آل قنينف والسعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس ومستشاره النافذ، منحت الإخوة الأربعة نفوذا لا يحكمه دستور، ولا يستقيم أمام المنطق. ويذهب الرواة إلى حد أنه لا يعين وزير أول أو يبقى في منصبه، ولا ينصَّب وزير أو تُنزع منه حقيبته، ولا حتى وال من ولاة البلاد الثمانية والأربعين إلا بموافقة كبير آل قنينف.
لست متأكدا من مدى صدق هذه المعلومات. لكن المؤكد أن تيه السي بوتفليقة في الغربة عن الوطن، قد أعقبه تيه آخر في بحر السلطة. أتذكر جيدا قوله إحدى المرات في مطلع الألفية: لما يدشن اخوتنا في المغرب أو تونس مصنعا أو فندقا، يقول الناس "الله يبارك"، ونحن حين يقيم الواحد منا مشروعا، يصيح الناس: من أين جئت بالمال؟.
قضت محكمة سيدي امحمد بوضع الاخوة قنينف في سجن الحراش بشكل مؤقت.
يطلق الكثير من الناس على هذه المحكمة اسم عبَّان رمضان، لوجودها في شارع يحمل اسم هذا المقاوم الجزائري الصنديد الذي حارب الاستعمار الفرنسي، لكن اغتالته أياد جزائرية، شنقا بربطة عنق، في المغرب عام 1957. عبان رحمه الله، هو أيضا سرى عليه الخيط الرفيع بين الاستنشاق والاختناق. بين الحق والباطل. بين القانون والفوضى.
في المحكمة التي تحمل اسمه يمثل منذ مدة أثرياء وذوو نفوذ آخرون ... من زمن السي بوتفليقة.
وهناك في محكمة الحرَّاش، حيث يقبع بعض أبناء الراحل أحمد قنينف، لا يتسلل نور السماء الرحبة، سوى عبر ثقوب.
فهل من معتبر في طول تلك المنطقة وعرضها؟؟؟
بالمناسبة يمكن أخذ حالة الجزائر ووضعها في الخرائط القريبة، وستجد لها سفراء