وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
منذ وعيت كان للقطار سحر خاص علي. فهو يعني لي اللقاء والفراق. الأقدار المقدرة لكل منا. يعني البدايات والنهايات. يختصر الطابع الوجودي العابر للأفراد. يضبط الوقت والفرص!.
في الأسبوع الماضي كنت عائدا في المساء من مدينة نوتنغهام، شمالي انجلترا، الى لندن، فتوقفت ببلدة سانت أولبنز St Albans حيث افترقت مع زميلي المصور الذي واصل الرحلة بالسيارة. قصدت رأسا محطة القطار.
في العادة ينقص عدد القطارات المتجهة نحو لندن بعد السادسة مساء. لم يكن يفصلني عن موعد الرحلة الا خمس دقائق، فاشتريت التذكرة من الآلة المخصصة لذلك الغرض، وشققت طريقي نحو الأرصفة. لم يكن مبينا بأي الأرصفة سيمر القطار الذي سأركبه، فسألت موظفة من أصول هندية كانت تقف بالباب، نظرت إلي بعينين أحاط بهما قرصان أزرقان، وما إن همت بالحديث حتى انطلق مكبر الصوت المسجَّل مكررا عباراته التي اسمعها منذ عقدين من الزمن: المسافرون المتحهون إلى لندن عبر محطات كذا وكذا ...
هنا سينطلق مكبر آخر لأحد موظفي المحطة، فيطغى صوته المزعج على صوت الرسالة المسجلة.
لم أستطع تمييز ما يقوله المكبران، فشكرت الموظفة وهرولت صاعدا السلم. كانت احدى الشاشات تشير الى ان القطار الذي يعنيني سيمر بالرصيف رقم 3. جميل. لكن كيف السبيل الى هذا الرصيف؟.
تزامن ذلك مع نزول مئات من الموظفين العائدين من وسط لندن، وكلهم يستخدمون سلما واحدا. أحاول التسلل هبوطا بينهم فلا أستطيع. لم يعد يفصلني عن وصول القطار سوى دقيقة.
اكرر هذه العبارة:"استسمح، هل يمكن ان امر. أنا آسف!".
لا أحد ينتبه.
بداخل كل فرد قوة لامرئية تدفعه للخروج بسرعة. أسمع هدير القطار، فأحاول أن أتقدم قليلا وسط الزحام. يعرقل مشيتي شاب يصعد السلم وعيناه لا تفارقان شاشة هاتفه المحمول. ينطلق مكبر الصوت معلنا توقف القطار. ثلاثون ثانية فقط!.
بشق الأنفس أصل إلى أسفل السلم. لكن رجلا وامرأة أبَيا إلا أن يشبكا يديهما ومرفقيهما. يا إلهي ! أهذه هي اللحظة المثالية لرومنسيتكما؟. وعلى حسابي أنا؟.
أسلِّم أمري لله، فقد أفقدتهما سكرة العشق القدرةَ على مراعاة متطلبات المكان. يمضينا غير آبهين.
أبلغ باب القطار، وأخيرا ها أنذا فيه. لا يوجد في العربة سوى شخص واحد، وهو مستغرق في احتساء ما استطاع من بيرة. صحة وعافية.
يُغلق باب العربة بطريقة اوتوماتكية. أنتظر قليلا. لكن القطار لا يتحرك.
تمضي دقائق، والقطار ساكن.
يتلاشى ضحيج المسافرين المغادرين، وتعود السكينة إلى مرافق المحطة القديمة.
فجأة ينطلق صوت السائق عبر مكبر الصوت: "أود أن أخبركم بأنني اضطررنا للانتظار بعد حادث في المحطة المقبلة. نأسف لأي خيبة قد تنجم عن هذا التأخير. والآن سننطلق".
في محطة سان پانكراس أغيِّر من شبكة القطارات الى مترو الأنفاق. الحركة هنا لا زالت دؤوبة.أجد مكانا فارغا فأجلس. قبالتي توجد سيدة ملامحها تشي بأنها من منطقة الكاريبي أو من سود الولايات المتحدة.
من ركن منسي بالذاكرة تقفز صورتها. إنها هي!، مع الكثير من الشيب الذي غطى شعرها المجعد. أجل إنها هي!.
يقف رجل بدين بيني وبينها، فيختفي وجهها. لكنها هي، ذاكرتي قلّما تخونني.
أستعيد المشهد كما لو حدث منذ دقائق. الزمان أواسط فبراير عام 2003 في لندن. أراني أدخل إلى غرفة الأخبار عصرا، حاملا كالعادة كأس شاي انجليزيا أسود بيدي اليمنى. تقابلني سيدة غريبة سوداء فارعة الطول. تمد يدها معرِّفة بنفسها. تقول إنها "تنجز بحثا"، وتريد أن تجمع بعض المعلومات من صحفيي القسم العربي في بي بي سي. لهجتها أقرب إلى المتداول في الجنوب الشرقي للولايات المتحدة . لعلها من فلوريدا.
تنطلق الأسئلة حول تغطياتنا للمنطقة العربية، والحياد، والتوازن، والتحولات الناجمة عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وتصنيف جورج بوش لايران وكوريا الشمالية والعراق بأنها تشكل أضلاع مثلث "محور الشر axis of evil" والدول "المارقة rogue states ". وفجأة تلقي علي السؤال التالي: هل تعلم أن لصدام أسلحة دمار شامل؟ هل تعرف بمكان إخفائها؟.
يا لها من قنبلة؟.
أتذكر أنني رفعت كوب الشاي كما يجري في الأفلام، لأبلل حلقي.
سيدتي، أسلحة الدمار الشامل المزعومة لم يعثر عليها مفتشو الأمم المتحدة، وجواسيس أمريكا، وعناصر المعارضة العراقية، والأقمار الاصطناعية، فكيف لي أن أعرف بها وأنا لا صلة لي بالعراق!!.
تنتهي المقابلة، ولا أراها بعد ذلك سوى مرة أو مرتين، في أماكن لها علاقة بالتغطيات الاعلامية.
بينما أنا أستعيد هذا الحوار والمشهد، يتوقف قطار المترو في إحدى المحطات، يتحرك الرجل الذي وقف بيني وبينها. كنت عزمت على أن أكلمها وأذكرها بلقائنا ذاك. يبتعد الرجل، أجد أمامي امرأة شقراء في مقتبل الشباب.
لا أدري في أي محطة نزلت تلك "الباحثة" التي سألتني عن أسلحة صدام "المحظورة".
هذا هو طبع القطار. إنه كخيط القدر.
يأتي شخص من حيث لا تدري، يقف أمامك، أو في طريقك، لديك أسئلة أو أمور تريد تحقيقها... بينما وجوده يحول دون ذلك.
وحين يختفي... تكون الفرص قد فاتت، وربما لن تبلغها أبدا...