وتلك الأيام نداولها
انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...
الطريق مظلم وموحش. في جانبه المقابل يظهر طيف امرأة تحت نور مصباح خافت. إنها تجلس بمدخل مبنى حكومي. أزيز تلك الحشرة التي تختار الليالي الصيفية يتردد بقوة. تحرك السيدة أواني أحاطت بها من كل جانب. يا إلهي، كيف لامرأة أن تبقى وحيدة في العاشرة والنصف ليلا بهذا المكان الموحش؟؟.
أستعيد بالله من الوسواس الأمني، وأتذكر أنني في السودان.
لا أدري ماذا يدور بخلد السيدة، لكنها بالتأكيد تفكر في ما جمعته هذا المساء من نقود قليلة بعد أذان المغرب.
لله درُّك يا "ست الشاي". أيتها الصبورة الخدومة الهادئة العاملة بصمت.
أبتعد عنها وهي لا تفارق بالي. يمر جنديان شابان. يتثاءب أحدهما، والآخر يضع في أذنيه سماعة مرتبطة بهاتف "غير ذكي". لعله يستمع إلى البث الاذاعي.
آه منك يا زمن، لقد ولى زمن المذياع الصغير.
تحت ظلمة شجرة في مفترق الطرق تقف سيارة عسكرية. وفوقها تشرئب ماسورة مدفع رشاش من عيار 14.5 ميليمتر. لحسن الحظ تعقَّل الجيش هذه المرة، فلم يطلق الرصاص. لكنه في الماضي فعل ذلك في دارفور وشرقي البلاد، وفي بداية القرن الحالي في جنوب السودان قبل انفصاله.
ليتك تصرفت يا عمر كما تصرف جيشك حتى الآن. ماذا خسر العسكر؟. الناس معتصمون في مدخل القيادة العامة، فما كسروا، ولا أحرقوا، ولا اعتدوا على حرمات. يا عمر، أُنْظُرْ إلى "ست الشاي" التي تجلس وحيدة في ذلك الركن الموحش. هل تجرأ أحد عليها؟. لا. أستطيع أن أؤكد لك ذلك.
إنها وحيدة، لا تحميها أنت ولا هيبة القانون. أليس هذا الوضع جزءا من "الشريعة" التي تقاوم شريعة الغاب؟. هنيئا لشعبك برجال لا تمتد أياديهم العابثة إلى حرمات النساء في ليلة ظلماء. فعلا أغبطك.
أشاهد جمعا من الرجال يجلسون القرفصاء. جلابيبهم البيض تدل عليهم. يتحرك الفضول الصحفي. أقترب منهم. إنهم منهمكون في لعبة الدومينو. يفترشون الأرض. آثار الفقر بادية عليهم.
الفقر. إنه اللعنة التي تلاحق الملايين من البشر. لكن هل هذا البلد فقير؟.
تدور عقارب الزمن بسرعة. العام 1984. أتصفح مجلة (العربي) الصادرة في الكويت. ما أجمل "عطر" الورق الصقيل مزدانا بصور بهية. في أحد المقالات أقرأ عن مشروع قناة جونغلي. إنها منطقة في "السودان". الكاتب يبشر القراء بأن هذا المشروع سيملأ موائد العرب بما لذ وطاب من خضار طازجة وفواكه مختلف مذاقها، وحبوب تشبع الجوعان.
يا عمر. لم ير ذلك المشروع النور أبدا. وصلتُ إلى جونغلي مطلع عام 2014 فكانت طائرة الهيليكوبتر الروسية الصنع التي أقلَّتنا في مرمى قذائف شبان متمردين. كنا قاب قوسين أو أدنى من السقوط وسط الأدغال.
آه لقد نسيت. تلك المنطقة يا عمر لم تعد جزءا من السودان كما كانت عام 1984. لقد أصبحت تابعة لدولة مستقلة اسم عاصمتها جوبا.
أصل إلى مركز تسوق عصري. تتزاحم في بابه مراهقات يتراقصن على ايقاع موسيقى صاخبة منبعثة من الداخل. ملامحهن جنوبية. إن أهل الجنوب لا زالوا يعيشون بين ظهراني شعبك يا عمر. ألم أقل لك إن هذا الشعب كريم ومضياف؟.
في ساحة الاعتصام أقسم شخص غريب على أن أتناول، وأنا الغريب، معه طعام الافطار. ثم ألحق الدعوة بالاعتذار عن بساطة الوجبة. لا أبالي بما قدمه لي، بل هالني كرمه.
يصر زميل لي في المكتب على أن أزوره في بيته. أتردد. أتملص. أراوغ. لا حيلة تنفع معه. تفطر معنا يعني تفطر معنا!!. وإن لم يكن ذلك ممكنا اليوم، فلنؤجله إلى الغد.
نصل إلى حي (اللاماب بحر أبيض) الشعبي.
الناس يجلسون على كراسي بلاستيكية وسط الطريق. يوضع الطعام على حصائر من البلاستيك. النساء اجتهدن في إعداد موائد تليق بالضيوف. لم نكن نحن الضيوف، بل كل من يمر من هناك يستطيع أن يجلس ويأكل، فالدعوة مفتوحة.
يفتح المفتشون خزائن بيتك يا عمر. يجدون ملايين الدولارات عداًّ ونقدا. لقد جئتَ إلى السلطة رافعا شعارات الانقاذ من الفساد ودرء المناكر.
لم أكن سمعت بك من قبل. لكن في ذلك اليوم الصيفي القائظ، كان حلقي جف من فرط الحرارة. تشق الحافلة طريقتها وهي تشهق وتزفر في أحد الطرق الجبلية. يرفع السائق صوت المذياع. نسمع أن السودان شهد انقلابا عسكريا بقيادة ضابط اسمه عمر حسن البشير. لقد زج برئيس الحكومة المنتخب، الصادق المهدي في السجن.
يا عمر. كان بوسعك أن تتفادى الانقلاب. كان بإمكانك التنحي بعده. ألمْ يفعلها قبلك المشير عبدالرحمن سوار الذهب؟. أجل يا عمر. لقد نفذ انقلابا على جعفر النميري، وهو عسكري قدم إلى الحكم قبله عبر انقلاب.
لكن سوار الذهب سلم الحكم لمدنيين.
لقد حمل المفتشون الأموال التي عثروا عليها في خزائنك. الآن لم يبق لك شيء منها.
لا أدعي الملائكية أو الزهد، فكلنا نرغب في المال. زينة الحياة الدنيا. فنحن لدينا أسر وعائلات مجبرون على توفير احتياجاتها. لكن يا عمر، وهذا ما عرفته مؤخرا، ليس لديك أولاد تخشى عليهم إملاقا أو جاحة. ولقد تركتَ مستقبلك خلفك منذ سنين عدة. أنت في عمر يخصصه الناس للعبادة والتقرب الى الله واسداء النصح للاجيال الشابة.
لكنك لم تفعل.
دعنا من هذا. فمن أكون حتى أسدي لك النصح؟.
أعرف أنك لن تسمعني. أعرف أنك لم تسمع لنصح الناصحين. أعرف أننا في منطقة شاسعة ينظر أهل السطوة فيها إلى المثقفين والمتعلمين بنظرة قائد مركب تهريب البشر وسط بحر لُجيٍّ. إن فتحوا أفواههم ستسبقهم أجسادهم إلى أفواه أسماك القرش.
لكن لا بأس، فعمر لا زال موجودا بيننا. عمر مجرد "تطبيق application" في ثقافتنا وسلوكنا.
أرتشف من كأس القهوة البارد، الذي أعدته لي "ست شاي" قصدتها قبالة مركز التسوق. ما أحلاه بطعم الزنجبيل.
يطبطب على كتفي كف صغير. ألتفت، فإذا به طفل يطلب صدقة.
يا عمر، ليت الله رزقك طفلا كهذا تصرف عليه مالك. أو بالأحرى، ليتك اعتبرت أطفال الشعب الفقراء أبناءك.